«ما تكسفنيش فى آخر مرة أحتاج لك فيها» يقولها محمد عبدالله 59 عاما لسيارته وهو على بوابة ساحة التخريد عند الكيلو 10.5 من طريق مصر الإسكندرية الصحراوى. يركن التاكسى القديم موديل 1970، وينحنى على الكبوت فى محاولة تصليح للموتور الذى خذله وتوقف قبل أمتار من الوصول إلى ساحة إحلال التاكسى. بعد فشل محاولات التصليح، اضطر محمد إلى الاستعانة بسائقين آخرين لدفع السيارة المتهالكة حتى أخذت مكانها فى صف كبير من السيارات القديمة. «كنت خايف العربية ما تكملش معايا الطريق، وأول ما وصلت دعيت ربنا علشان يوافقوا يأخذوها»، يقولها محمد وهو يدعو أن يقتنع خبير السيارات بأن السيارة مازالت بحالة مقبولة. محمد لا يعرف أن عطل سيارته يصبح مشكلة كبيرة عند بدء الإجراءات. العقيد ناصر شمس الدين مندوب وزارة الداخلية والمسئول عن تخريد التاكسيات القديمة يقول إنه لا يستطيع تسلم «التاكسيات المعطلة التى تنقص مواتيرها أجزاء داخلية أو عليه آثار حادثة كبيرة». فى هذه الحالة يجب على السائق إصلاح التاكسى أولا. إلا أن محمد يستطيع أن يطمئن على أن التاكسى الذى يملكه سيتم قبوله، فالعقيد ناصر يؤكد أن إدارة المرور تتغاضى عن الأعطال الفنية البسيطة، والتى من المتوقع حدوثها فى مواتير السيارات القديمة. «باتبهدل لما يقف بيا التاكسى فى نص الطريق. ظهرى وجعنى، الواحد كبر وعايز يرتاح ويسوق عربية جديدة». يقولها محمد الذى يعمل سائق تاكسى منذ ثلاثين عاما، ويشعر بالتفاؤل من مشروع إحلال التاكسى. يرى محمد أن مشروع إحلال التاكسى سيوفر عليه نقود التصليح التى تكلفه الكثير، وسيقلل من نفقات البنزين الذى يستهلك الموتور القديم كمية ضخمة منه، «ده غير إن فيه زباين كتير بيخافوا يركبوا معايا لأن العربية قديمة». مشكلات الأعطال والتلوث كانت وراء فكرة المشروع بدأت وزارة البيئة هذا المشروع فى أواخر 2006 فى نطاق محدود، ثم تحول إلى مشروع قومى هذا العام، كما يقول د. أحمد أبو السعود، وكيل وزارة البيئة. «المرحلة الأولى كنا بنجرى ورا السواقين نطلب منهم الاشتراك فى المشروع» كما يوضح د. أبو السعود، فكانت الوزارة تبعث بمندوبيها إلى المواقف المرورية ليتحدثوا مباشرة إلى السائقين ويطلبوا منهم إحلال سياراتهم. المرحلة الأولى تضمنت 100 سيارة فقط. يسلم السائق سيارته ويأخذ فى المقابل 15 ألف جنيه كمقدم لسيارة جديدة. «من غير إعلانات أو مجهود، تظاهر أمام الوزارة مئات السائقين يطلبون الاشتراك بالمشروع»، فأخبار المشروع تناقلها سائقو التاكسى بين بعضهم البعض حتى تقدم 3 آلاف سائق إلى الوزارة بطلبات إحلال. واستجابت الوزارة بمرحلة ثانية للمشروع تقدم إليها 3 آلاف سيارة اختارت الوزارة منها ألف سيارة. عرضت الوزارة المشروع على رئاسة الوزراء التى تكفلت بتحويله إلى مشروع قومى يهدف إلى إحلال 34 ألف سيارة تاكسى قديم بالقاهرة الكبرى. «حتى الآن لا يوجد خطة لتطبيق المشروع على جميع محافظات مصر»، كما يقول د. أبو السعود «إلا أن سائقى القاهرة أمامهم 3 سنوات لتوفيق أوضاعهم وإحلال جميع التاكسيات الجديدة». يشارك وزارة البيئة فى تنفيذ المشروع وزارتا الداخلية والمالية. إدارة المرور بالداخلية مسئولة عن إعدام أرقام الشاسيهات القديمة، وإزالة جميع أوراقها من سجلات المرور حتى لا يتم ترخيصها مرة ثانية. أما وزارة المالية فتقدم الدعم المادى لسائق التاكسى، 5 آلاف جنيه، كمقدم تاكسى جديد، كما تتولى التنسيق مع البنوك لتقسيط التاكسى، إضافة إلى الاتفاق مع معلنين لوضع إعلانات على التاكسيات تسهم إيرادتها فى خصم جزء من أقساط السيارة. «انستانت رينتر» للدعاية والإعلان هى الشركة الوحيدة التى تم التعاقد معها حتى الآن طبقا لمحمد شوقى، الخبير الاقتصادى بوزارة المالية. وتلتزم الشركة بدفع قمية إيجار الإعلان لمدة خمس سنوات لكل سائق حتى فى حالة عدم لصقها إعلانات على التاكسى الجديد، وبهذا تصل قيمة القسط الذى تسدده شركة الدعاية كمقابل لحق الإعلان إلى 550 جنيها شهريا يتم خصمها من القسط الذى يتحمله صاحب السيارة. إضافة إلى هذا الخصم، تقوم شركة الإعلان بدفع 100 جنيه شهريا لكل سيارة. «شراء تاكسى جديد من غير هذه التسهيلات كان مستحيلا لكثير من السائقين» كما يقول د. أبو السعود. واستقبلت وزارة البيئة فى الأسبوع الأول لتطبيق المشروع 5 آلاف طلب إحلال، وحتى الآن تم قبول 3 آلاف طلب قرض لسائقين يرغبون فى الإحلال، طبقا لبيانات وزارة المالية. عدد السيارات التى تم تخريدها 400 سيارة، وتم تسليم 40 تاكسى تقريبا الأسبوع الماضى. السيارة القديمة «عضمها متين» لكن الجديدة أرخص وأنظف «عربيتى متينة وتتحمل، وما فيش زبون واحد اشتكى منها». يقولها سائق التاكسى تامر محمد، 28 سنة. أمام محطة القطار برمسيس، ينهمك تامر فى تلميع الكشاف الأمامى لسيارته الأجرة البيجو 7 راكب. يهتم تامر كثيرا بمظهر سيارته، التى يقبل عليها السياح العرب فى إجازاتهم العائلية، ويطلبون هذا النوع من سيارات الأجرة بالاسم. اليوم يهتم تامر أكثر من العادة بنظافة سيارته، ويعاود التأكيد على أن العجلات موزونة وأن الموتور بحالة جيدة، ربما ليثبت لنفسه خطأ قرار الحكومة بسحب سيارته وسحقها لقطعة خردة. اشترى تامر البيجو موديل 1979 ال«7 راكب» الشهيرة العام الماضى دون تقسيط ب70 ألف جنيه. باع شقته التمليك التى ورثها عن أبيه وسكن مع زوجته وابنيه فى شقة إيجار حتى يكون مالكا لسيارة أجرة بدلا من أن يكون سائقا لحساب الغير. اختار تامر تلك السيارة تحديدا لأن «عضمها متين» وتعمل بتقنية الدفع الأمامى التى لم تعد رائجة فى السيارات الحديثة. يقول تامر إنه قد سافر بهذه السيارة من القاهرة لشرم الشيخ والغردقة والواحات البحرية، لكنه غير راض عن مشروع الإحلال. يشعر تامر بأن الوضع الجديد سيضعه تحت رحمة البنك، ويضيف إليه أعباء مالية كان فى غنى عنها بعد أن كان مالك سيارة تمليك. لكن وزارة البيئة لديها رأى آخر. «لو عندى تليفزيون موديل سنة 60 وتليفزيون بلازما، يبقى أنهى الأحسن؟». يسأل د. أحمد أبو السعود، وكيل وزارة البيئة، متعجبا من آراء بعض سائقى التاكسى الذين يفضلون السيارات القديمة لأنها أكثر متانة فى رأيهم. «أكيد فيه قلة اللى تعبانة زى البيجو مش عاجبها المشروع لأنهم حاسين إن العربية غالية»، كما يقول د. أبو السعود، لكنه يوضح أن ارتفاع ثمن السيارة سببه الحقيقى منع وصعوبة الحصول على تراخيص التاكسى فى القاهرة الكبرى، حيث تباع نمرة وترخيص التاكسى ب40 ألف جنيه. «أما ثمن السيارة الحقيقى فلا يتجاوز ال20 ألف جنيه». لكن تحويل التاكسى القديم إلى ملاكى كارثة بيئية «لو كان الهدف الإحلال هو الحفاظ على البيئة، يبقى ليه الوزارة تسمح بتحويل التاكسى القديم لملاكى؟» سؤال على لسان تامر، الذى سمع تصريحات المسئولين أن الإحلال إجبارى ولكن طريقته اختيارية، فمن الممكن أن يبيع صاحب التاكسى سيارته كملاكى، ثم يستخدم النمر القديمة على تاكسى جديد. تامر وغيره من السائقين يقولون إن السيارات إذا كانت ملوثة للبيئة وهى تاكسى، فهى لن تصبح أقل تلويثا حين تتحول لملاكى، وربما كان على الوزارة أن تبدأ بسيارات النقل العام والسيارات الملاكى قبل التاكسى. «السماح بتحويل التاكسى القديم إلى ملاكى كارثة بيئية»، كما يقول د. سامح متولى، أستاذ ميكانيكا سيارات بهندسة المطرية، جامعة حلوان. يقول د. سامح أن أكاسيد الكربون السامة التى تخرج من السيارات القديمة تتجاوز كل النسبة الآمنة، ويقترح أنه إذا لم يوجد مفر من السماح بتحويل التاكسى القديم إلى ملاكى، فيجب أن يتم إخراج الملاكى خارج القاهرة. يساند د. سامح مشروع إحلال السيارات القديمة شارحا أن شراء سيارة جديدة أقل تكلفة من إصلاح السيارة القديمة، فالسيارات الحديثة تستهلك وقودا أقل الوقود، كما أن قطع غيارها غير متوافرة أو مستعملة. وهو ما يرد عليه د. أبو السعود قائلا إن استخدام التاكسى يختلف عن استخدام السيارات الملاكى، فالتاكسى قد يعمل طوال اليوم، فى حين أن سائق الملاكى قد يستخدم سيارته ساعة واحدة فى اليوم» وبالتالى كل تاكسى بتخرجه، كأنك خرجت 10 عربيات ملاكى. لما تخرج 30 ألف تاكسى، كأنك خرجت 300 ألف سيارة ملاكى». ويضيف د. أبو السعود أن الوزارة تنفذ خطة لإحلال سيارات النقل العام، إلا أنه لا يوجد خطة لإحلال السيارات الملاكى حتى الآن. يقول د. أبو السعود أن دراسات وزارة البيئة قد أثبتت أن عوادم السيارات تشكل 26% من تلوث هواء القاهرة، وأن إحلال سيارات جديدة مكان السيارات القديمة التى مر عليها أكثر من 30 عاما ستقلل نسبة هذه العوادم 30%. ويضيف د. أحمد أن بجانب الفوائد البيئية للمشروع، فإنه سيقلل من نسبة أعطال الطريق التى تتسب فيها قلة كفاءة المواتير القديمة، إضافة إلى تحسين الصورة الحضارية لمصر، خصوصا أمام السياح. «المشروع كله سبوبة للحكومة ورجال الأعمال وأحمد عز» قالها أحد سائقى موقف رمسيس، رفض ذكر اسمه، معبرا عن شعور الكثير من السائقين الذين يعتقدون إن طمع رجال الأعمال فى الحصول على أطنان من الخردة، أحد المكونات الرئيسية فى صناعة الحديد، هى السبب الحقيقى وراء مشروع الإحلال والتجديد، خصوصا أن شركة عز للحديد والصلب تستحوذ على 60% من إنتاج الخردة فى مصر. «إحنا عرضنا على أحمد عز تولى عملية تخريد السيارات بالكامل فى المرحلة الأولى من المشروع،» يقول د. أبو السعود وكيل وزارة البيئة، «لكنه رفض». يقول د. أبو السعود إن شركة عز للحديد أعربت عن رغبتها فى شراء خردة الحديد خالصة، مع رفضها تولى عملية التخريد، لأنه سيتضمن عمليات فرز للزجاج والألومنيوم وغيرها من المواد المختلفة فى هيكل السيارة. ويؤكد د. أبو السعود أن تجار وكالة البلح قد تولوا عملية التخريد بالكامل فى المرحلتين الأولى والثانية، «والمشروع فكرته بالكامل كانت من عندنا، والكلام عن أن رجال الأعمال همه اللى اقترحوا المشروع كلام فارغ». أما عن المرحلة الحالية، فيقول د. أبو السعود إن هناك اتجاها داخل وزارة المالية لإنشاء مصنع للتخريد يتولى العملية بالكامل، «ودى بداية صناعة ضخمة فى مصر توفر فرص عمل كتير». ولم تتوصل «الشروق» لتأكيدات حول صحة هذه المعلومة من وزارة المالية. المستشار خالد نوفل، رئيس هيئة الخدمات الحكومية بوزارة المالية، قال: كان هناك «اتجاه معين داخل الوزارة لإنشاء مثل هذا المشروع ولكن تم تغييره»، فى حين رفضت أمينة غانم، مسئولة العلاقات الخارجية بالمالية التعليق. وقال محمد شوقى، الخبير الاقتصادى بمكتب وزير المالية، إن هناك احتمالا لعمل مناقصة تدخل فيها شركات عالمية للتخريد وشراء الخردة. حتى هذه اللحظة، فإن ساحة الإحلال بالكيلو 10.5 على طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوى هو ساحة لتخزين السيارات القديمة وتخريدها، أما ما بعد التخريد فلايزال مجهولا.