«لا بد من الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات أياً كان الفائز فيها». مجرد التأكيد الروسى على تلك البدهية المفترض ألا تكون مثاراً للجدل فى أى دولة ديمقراطية مستقلة تجرى فيها الانتخابات بنزاهة تحت رقابة دولية، يلقى بظلاله على تشابكات المصالح اللبنانية الداخلية مع مختلف القوى الخارجية على الساحة السياسية فى لبنان، التى بقدر ما تشهد من تعددية طائفية دينية وسياسية، بقدر ما تتحكم فى مقدراتها أطراف دولية هى اللاعب الحقيقى والمحرك الفعلى للخريطة السياسية فى البلاد، وهى التدخلات التى تتجلى ملامح صراعاتها فى مرحلة توزيع الحقائب أكثر مما تظهر فى الحملات الانتخابية وعملية الاقتراع. وقبل الخوض فى ملامح تلك التدخلات، لابد من وضع عبارة وزير الخارجية الروسى سيرجيه لافروف حول قبول نتائج الانتخابات أيا كان الفائز فيها فى سياق دور موسكو الذى تسعى إلى ممارسته فى منطقة الشرق الأوسط، مقابل النفوذ الأمريكى من خلال فتح قنوات حوار مع «حماس» و«حزب الله»، والسعى إلى جمعهما وإسرائيل فى محفل واحد هو مؤتمر السلام الدولى، الذى تعتزم احتضانه العام الجارى. أولى وأهم تلك القوى المؤثرة علنا وفى الخفاء على الانتخابات اللبنانية هى الولاياتالمتحدة، التى تكثفت زيارات مسؤوليها فى الآونة الأخيرة للبنان، ما بين نائب الرئيس جو بايدن ووزيرة الخارجية هيلارى كلينتون، فى جولات اتخذت علناً شكل إبداء الدعم للبنان مع التأكيد على عدم الرغبة فى التأثير على انتخاباتها، بينما أضمرت ما يكاد يصل لحد التلويح بالمساعدات، وذلك من خلال بعض عبارات جاءت على لسان بايدن نفسه خلال زيارته من عينة «واشنطن ترغب برؤية المعتدلين يفوزون»، وأنها «ستحدد لاحقاً مسألة مساعداتها للبنان فى ضوء الحكومة المقبلة»، وهو ما أثار عاصفة من التكهنات حول أبعاد هذه الزيارة ونتائجها وتأثيراتها المباشرة على أصوات الناخبين. وإذا كان تحالف الأكثرية الحالية لتيار المستقبل وإخوانه «وليد جنبلاط وسمير جعجع»، مع الولاياتالمتحدة هو تحالف قوى ورهان على الجواد الرابح، بحساب المصالح الشخصية للقيادات لا المصالح العليا للدولة، فربما يكون تحالف الأقلية «حزب الله وحركة أمل وتيار عون» مع إيران بل سوريا هو التحالف الأخطر، لما لهما من حضور نافذ على الساحة الداخلية، رغم العزلة الدولية المفروضة على الأولى، ورغم إنهاء الثانية وجودها العسكرى قبل عدة أعوام فى لبنان. فالتواجد المخابراتى السورى ملموس أكثر مما كان عليه الوضع قبل الانسحاب العسكرى من لبنان، وهو ما تظهر ملامحه بين الحين والحين فى التوترات المتقطعة بين الفصائل الفلسطينية فى لبنان، مثلما حدث فى مخيم «نهر البارد» فى مايو 2007، وبين الجيش اللبنانى وتنظيم «فتح الإسلام»، التابع لحركة «فتح الانتفاضة»، الموالية للنظام السورى، غير أنه فيما يتعلق بالانتخابات النيابية، فعلى الرغم مما تداولته أوساط تابعة لتيار المستقبل من أن 3 ضباط أمن سوريين – حددتهم بالاسم - شكلوا فريقاً سرياً يتولى من طرابلس إدارة العمليات الانتخابية وعقد لقاءات مع مرشحين، فإن اللافت بالفعل هو التزام الصحافة السورية الصمت النسبى حول الانتخابات وبعدها عن خوض أى حروب إعلامية تعزز هذا الفريق أو تسهم فى الإساءة لفريق آخر. وبالنسبة للأيدى الإيرانية فى الجنوب اللبنانى وسائر مناطق نفوذ «حزب الله» فهى غير خافية، وتظهر من خلال دعم مادى ولوجيستى للحملات الانتخابية التى يتهم مناوئوا «حزب الله» أعضاءه بإشهار سلاح الرشاوى الانتخابية من خلال المعونات المالية الإيرانية، وفى المقابل تتهم إيران على لسان على لاريجانى، رئيس مجلس الشورى، السلطات المصرية بالتأثير أيضا على نتائج الانتخابات اللبنانية من خلال إحداث «ضجة إعلامية» حول خليتها التى تم العثور عليها فى القاهرة مؤخراً. وإذا كان لإيران لاعبوها على الساحة اللبنانية، فللمملكة السعودية أيضا رجالها داخل تيار المستقبل، الذى يجاهر أقطابه بالدعم السعودى لهم، منذ بداية العلاقات الحميمة التى جمعت النظام السعودى برئيس الوزراء الراحل رفيق الحريرى، وكما كال منتقدو «حزب الله» له الاتهامات بتوزيعه رشاوى للناخبين تأتيه عن طريق إيران، فضحت صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً فى تقرير لها ما وصفته بتدفق مئات الملايين من الدولارات إلى لبنان من الرياض لشراء أصوات الناخبين لصالح تيار المستقبل، وهو ما يرد عليه حلفاء الحريرى بسخرية قائلين إن تطبيق نموذج سعودى فى لبنان يعد أقل خطراً على لبنان من النموذج الإيرانى، خاصة أن أحداً لا يدعو أساساً إلى تبنى مثل هذا النموذج، مثلما تفعل طهران. أما القوة الخارجية الأخرى التى تطرح نفسها دون تحالفات – معلنة - فهى إسرائيل التى أجادت استغلال الساحة اللبنانية المكشوفة بانقساماتها الداخلية، فقامت بزرع وتجنيد خلايا تجسسية من ضمن أهدافها التغلغل والتأثير على نتائج الانتخابات، إضافة إلى ما حاكته من «فبركة بوليسية»، على حد وصف «حزب الله»، لما تم تسريبه ونشره فى مجلة «دير شبيجل» الألمانية حول تورط «حزب الله» فى اغتيال رفيق الحريرى، وهو ما تجاهل تيار المستقبل إعطاءه أى أهمية من ناحية واستغله «حزب الله» من ناحية أخرى بقلبه الطاولة على إسرائيل، مؤكداً أنها تسعى إلى التغطية على الاكتشافات المتتالية لخلايا التجسس الإسرائيلية فى لبنان.