جاء بالمادة الأولى «المعدلة» من دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية أن السلطة التشريعية ممثلة بالكونجرس لن تصدر قانوناً لتأييد الدين أو الحد من ممارسته.. أى أن الدستور الأمريكى قد منع صراحة تعرض السلطة التشريعية بالتأييد أو المنع لممارسة العقيدة.. وبالطبع دون تحديد لنوع هذه العقيدة أو من يتبعها من مواطنى الولاياتالمتحدة. ونظرة تاريخية إلى هذه المادة للتعرف على ملابسات إصدارها وأسباب هذا الإصدار.. نجد أن الآباء المؤسسين للدولة قد رغبوا منذ البداية إلى تلافى سيطرة الكنيسة والحد من استغلال قوتها وتأثيرها على الناس كما حدث فى بريطانيا العظمى.. حيث كانت ذكريات مخالفات حقوق الإنسان التى ارتكبها رجال الدين والتى عانى منها الشعب البريطانى قبل الثورة وبعدها مازالت عالقة بأذهان الكثيرين.. تسيطر على وجدان المهاجرين الأوائل للأرض الجديدة التى أصبحت فيما بعد دولة الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويذكر التاريخ للرئيس «جورج واشنطون» قوله: «يجب أن تتجرد اللبنة الأساسية للولايات المتحدةالأمريكية من تأثير الكهنة». الجدير بالذكر أنه رغم وجود هذا الفصل بين الدولة والدين الذى صار نبراساً تهتدى به الأجيال وتحترمه كل الطوائف والأديان جيلاً بعد جيل.. فليس هناك قانون يحدد معالمه وضوابطه.. وصار الأمر متروكاً للقضاة الفيدراليين للفصل فى المنازعات التى قد تنشأ بسبب حرية ممارسة العقيدة.. وعلى مدار التاريخ تكونت مجموعة من السوابق القضائية فى هذا المجال يهتدى بها القضاة والمحامون فى القضايا المماثلة. وقد ترتب على هذا المبدأ التاريخى أن منعت الصلوات وقراءة الكتب الدينية فى المدارس العامة.. وقد امتد هذا المنع فى السنوات الأخيرة ليشمل لافتات الوصايا العشر التى كانت تتصدر أبنية بعض المحاكم باعتبارها مبادئ أخلاقية ترقى إلى مرتبة القانون المطبق فى الدولة وليس باعتبارها جزءاً من التوراة.. وصارت هذه اللافتات محوراً لمنازعات قضائية فى العديد من الولايات، أحد أطرافها مجموعات تؤمن بوجوب الإبقاء على القيم الدينية التى تلتزم بها القوانين الوضعية.. وعلى الجانب الآخر، مجموعات تتمسك بحرفية الدستور وتخشى من استعادة الكنيسة لسيطرتها القديمة.. وأشهر هذه المنازعات القضائية هى التى انتهت بحكم المحكمة العليا فى ولاية «ألاباما» بإزالة لافتة الوصايا العشر من مبانى المحاكم لمخالفتها لنص المادة الأولى من الدستور.. وأهمية هذه الدعوى تكمن فى قوة المطالبين بالإبقاء على اللافتات وإذعانهم فى النهاية لحكم القضاء الذى رفض جميع حججهم القانونية. وقد ترتب على تطبيق مبدأ الفصل بين الدين والدولة أن ابتعدت الكنيسة تماماً عن التدخل فى السياسة.. وامتنع الكهنة بترتيب درجاتهم سواء فى الكنائس أو خارجها عن تأييد مرشح على غيره أو التدخل فى أى دعاية انتخابية أو حتى الحديث مع رواد الكنائس فى سير الانتخابات، أو حمل اللافتات لتأييد «بابا بوش أو بابا أوباما». أو غيرهما. ومما لا شك فيه أن مبدأ الفصل بين الدين والدولة هو أحد أسباب ارتقاء الولاياتالمتحدةالأمريكية وتقدمها على غيرها من الدول وتبوئها مركز الصدارة فى معظم الاكتشافات العلمية حيث انحصرت الأفكار الدينية فى المبادئ الروحية وتفرغت الكنيسة للتقويم والإرشاد والحض على نبذ الخلافات وتنقية النفس من بذور الفساد وابتعدت عن الزج بالدين فى المجالات العلمية كما كان يحدث فى القرون الوسطى. فقد تخللت القرون الوسطى فترات غير قليلة سميت «عصور الظلام» فى أوروبا، حيث سيطرت الكنيسة فيها على مقدرات الناس وتدخلت فى السياسة وفرضت سطوتها على الحكام وجعلتهم كالدمى ينفذون مشيئتها.. ويذكر كل من قرأ تاريخ هذه الحقبة أسطورة «صكوك الغفران» التى كانت تبيعها الكنيسة للمقتدرين الذين يرغبون فى غفران ذنوبهم للدخول فى الجنة.. ويذكر أيضاً التاريخ «محاكم التفتيش» التى ابتدعتها الكنيسة فى ذلك الزمان لمهاجمة المساكن للتفتيش عن الكتب العلمية ومحاكمة كل من يقتنيها بتهمة الشعوذة والتجديف على الدين. فعصور الظلام تشير إلى الظلام الفكرى فى القارة الأوروبية لانتشار الجهل وسيادة الخرافات بعد أن حرمت القراءة فى غير الدين الذى فرض تعاليمه وتفسيراته مجموعة الكهنة وكان الجزاء هو الصلب أو الحرق لكل من يخالف تعاليمهم. وبعد أن انتهى هذا العصر المظلم الكئيب بقيام الثورات فى جميع أنحاء أوروبا انحسر هيلمان الكنيسة وصدرت القوانين التى تحد من تدخلها فى السياسة وتم وضع حدود للأعمال الكنسية لا يتخطاها الكهنة.. استعادت الشعوب قوتها وأعيد افتتاح دور الكتب فى كل مكان ونشط المفكرون وأصحاب الآراء وظهرت المؤلفات المختفية وكثرت المؤلفات الجديدة ونشط الموهوبون فى الأبحاث العلمية فاستعادت الدول الأوروبية قوتها من جديد بعد أن انتشر ضوء الحرية فى أركان القارة. أما فى دول الشرق الأوسط فالدولة لها دين.. والدين يتحكم فى أمور الدولة.. وانتشرت الفوارق بين أبناء الدولة وكثرت الشيع والطوائف بين أبناء الدين الواحد.. واستغل بعض المنحرفين حالة الفوضى فاعتلوا منابر الكنائس والجوامع للحديث فى السياسة.. فاختلط «الحابل بالنابل» ولم تعد الجماهير تفرق بين الحق والباطل فى أمور الدنيا ولا فى أمور الدين.. وشاهدى على ما أسوق من حديث هو الأحداث الدامية التى تقع بين عنصرى الأمة فى مصرنا الحبيبة من وقت لآخر.. التى دافعها الجهل وانعدام الوعى بين الإخوة وأولاد العمومة من أبناء الوطن الواحد الذين شاركوا «جنباً بجنب» فى ملحمة عبور أكتوبر العظيم. ويحضرنى فى هذا المقام ما كتبه المؤرخ الدكتور إحسان حقى عن الأسباب التى أدت إلى انهيار الدولة العثمانية، ومن بين هذه الأسباب: «إدخال الدين فى كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، حتى أصبح الدين ألعوبة فى أيدى قبضة من الجهال، يحللون ويحرمون على هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس فى نطاق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة فى إسطنبول ووجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلى السلطان وحاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الإسلام بأن يفتى بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجساً من عمل الشيطان كما أفتى العلماء من قبل فأفتى شيخ الإسلام بجواز إنشاء مطبعة، شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب التفسير والحديث والفقه. وقد أنشئت أول مطبعة فى إسطنبول سنة 1712 أى بعد أن كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين ونصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين. ولاشك أن الخلط بين الدين والدولة فى دول الشرق الأوسط كان دافعاً للدول الغربية أن تتهم الإسلام بما ليس فيه وتربط - جهلاً - بين الإرهاب وتعاليمه.. فمتى يبزغ ضوء النهار وتتقهقر خيوط الظلام عن أرض الحضارات العريقة ومهد الأديان الثلاثة؟ *عضو مجلس كاليفورنيا الاستشارى لفض المنازعات [email protected]