لا أعرف لمَ شعرت وشعر الناس مثلى بالارتياح عندما صدر حكم القضاء فى قضية سوزان تميم، بتقديم أوراق المتهمين إلى فضيلة المفتى، وفى البداية - ورغم رفضى المبدئى حكم الإعدام أصلا- أؤكد أننى لا أتعاطف مع أحد طرفى القضية لا المجنى عليها ولا الجناة، وأرى أن الموضوع كله صراع دار بين الأطراف كلها، بعيدا عن القانون والمعايير، صراع استخدمت فيه كل الوسائل المشروع منها وغير المشروع، فتنة، جمال، طمع، إغراء، خداع، نفوذ، سلطة، أموال، وليس من الغريب أن يكون مصير الأطراف جزاء عادلا لهذه اللعبة الخطيرة. وأعود إلى شعور الناس بالارتياح لهذا الحكم الناصع. نعرف جميعا أن النظام يتكون من سلطات ثلاث هى: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن نافلة القول أن الناس قد فقدوا علاقتهم وثقتهم بالسلطتين الأوليين، مع هيمنة الحزب الوطنى وفساده، وتلاعبه بالدستور، وسعيه للتأبد فى الحكم عبر إصلاح دستورى مشبوه يهدف إلى توريثنا ك «وسية» من وسايا القرون الوسطى، ناهيك عن هيمنة الفقر والبطالة وتدهور المهن والتعليم وانسداد آفاق التغيير. ومن ثم لم يعد أمام الناس من بصيص ضوء سوى فى السلطة الثالثة «القضائية»، ومن هنا فقد كان هذا الحكم دليلا على أن هناك مكانا لم يفسد بعد فى بلادنا، وأملا يستطيع الناس أن يتعلقوا به، وهيئة تستطيع أن تقف بثبات فى وجه السلطة والثروة والنفوذ. والقضاء هنا هو صوت الله فى الأرض وتجسيده، وهو روح الإنسانية التى انبثقت عندما انعتقت من شريعة الغاب. ولقد أدرك المصريون القدماء قيمة العدل، فرسخوها بعد أن اخترعوا الضمير، وفى شكاوى الفلاح الفصيح التى قدمها المبدع الكبير شادى عبد السلام، عن قصة مصرية قديمة كتبت منذ ما يزيد على ألفين وخمسمائة عام، يقول الفلاح- الذى تعرضت بضائعه للاغتصاب من قبل بعض حكام الأقاليم- عن قيمة العدل موجها كلامه إلى الحاكم: «أيها الحاكم على كل من فنى ومن لم يفن/ إذا ذهبت إلى بحر العدل فإن الهواء لن يمزق قلعك/ ولن يتباطأ قاربك/ ولن تكسر لك مرسى/ ولن يحملك التيار بعيدا/ولن ترى وجها مرتاعا/ ذلك لأنك أب لليتيم وزوج للأرملة وأخ للمنبوذ وراع لمن لا أم له/ دعنى أرفع اسمك فى هذه الأرض فوق كل قانون عادل/ أقم العدل/ انشر الخير/ دمّر كل شر/ كن كالرخاء القادم الذى يقضى على المجاعة/ كالكساء الذى ينهى العراء/ كالسماء الساكنة بعد عاصفة هوجاء/ تمنح الدفء لمن يقاسون البرد/ كن كالنار التى تنضج النيئ/ كالماء الذى يذهب بالعطش/ أوتيت العلم واكتسبت الدراية لا لتسلب الناس/ أيها الحاكم المنزه عن الجشع/الخالى من الخوف/ يا من تحطم الظلم وتقيم العدل/ استجب لصيحتى عندما ينطق فمى/ وعندما أتكلم اسمعنى/ أقم العدل أنت يا من لك الحمد ولا يمدحك إلا الممدوحون/ أقم العدل من أجل الإله/ الذى أصبح عدله قانونا للحق/ فالعدل للخلود/ وهو يهبط مع صاحبه إلى القبر/ حينما يلف فى كفنه ويوضع فى التراب» هكذا أدرك المصريون القدماء قيمة العدل، وأنه ناموس الكون وميزانه، وبدون العدل سيضيع الناموس ويختل الميزان، وبدونه- وكما يقول المصرى القديم فى موضع آخر- سيصير القاضى لصا، والذى أوكل إليه مطاردة اللصوص سيصير زعيم عصابة، وسترمى الجثث على قارعة الطريق دون أن تجد من يدفنها ، ولأن القضاة هم أداة الحاكم فى تحقيق العدل وتثبيت الحقوق وإزهاق الباطل، فقد راحت المجتمعات تجلّهم وتحلّهم مكانا ساميا، لا أريد أن أقول مقدسا، وتبتدع لهم من الرموز والرسوم والنصوص ما يمكنهم من أن يكونوا صوت الله فى الأرض، فالعدالة تمسك سيفا يخيف الخطاة ويمحق الشر، والعدالة عمياء إلا عن الحق، طبعا الذى هو فضيلة ذاتية داخلية، فصوت الحق يأتى من الداخل، وإنما وضعت العصابة على عينيها كى لا يبهرها صاحب سلطة أو سطوة، وكى لا تنخدع بظاهر الناس وأشكالهم، وكى لا يعنيها إن كان الواقف أمامها شحاذا مسكينا، أم إمبراطورا طاغية. كما راحت الإجراءات تسعى لوضع القواعد التى تكفل للقضاة النزاهة والتجرد والموضوعية، فلا ينبغى أن يخالطوا العامة أو يرتادوا المقاهى، أو يعملوا عملا إضافيا، أو يعملوا بالبيع والشراء، بالإضافة إلى ضمان استقلال تنظيماتهم ولوائحهم الداخلية، كل هذا من أجل ضمان «سيادتهم المستقلة»، ومن هنا كانت تلك العبارة الدالة «لا سلطان على القاضى سوى ضميره». ولكن تأتى أهم هذه الضمانات- من وجهة نظرى- وأقصد بها ضمان حياة كريمة واستقلالا حقيقيا، يعصمان القضاة من الضعف ويجعلانهم بمنأى عن الخوف والطمع أيا كان مصدرهما، هنا يصبح موضوع مكافآت القضاة وامتيازاتهم، ضمانة لاستقلال القضاة ونزاهتهم، وينبغى أن نضع فى اعتبارنا أن امتيازات القضاة أو وجود كادر خاص لهم يسمح بتوفير السكن اللائق والسيارة والترفيه والتعليم للأبناء والعلاج، ليس امتيازا لفئة من الفئات، وإنما هو ضمانة، لكى تكون كلمة الله هى العليا على هذه الأرض، لا كلمة حاكم ظالم أو متنفذ طائل. ومن هنا فمن حق الناس أن يتساءلوء: عن مصير قضايا من تسبب فى إزهاق أرواح أكثر من ألف من المصريين، وأكياس الدم الفاسدة، وأحكام النقض ببطلان انتخابات مجلس الشعب فى عشرات الدوائر، وغيرها. فلا شك أن الحكم العدل هو أهم ضمانات استقرار النظام ومشروعيته. [email protected]