سياسة الدروع البشرية..!

تخيل أن رجلاً «ركن» سيارته فى الممنوع.. وبصرف النظر عن نيته ومدى تعمده، توقف كل شىء فى الشارع.. هرج ومرج وفوضى.. ولم يكن الرجل استثناءً فى الخطأ.. وإنما معظم الشوارع بها سيارات وحافلات «فى الممنوع».. ولما جاء رجال المرور ووجدوا السيارة بهذا الوضع.. عقدوا اجتماعات ومشاورات.. وأخيراً توصلوا إلى الحل: ذهبوا إلى حيث «تركن» السيارة المخالفة، ونزعوا لافتة «ممنوع الوقوف»، ووضعوا مكانها لافتة «مسموح الوقوف»..!
هذا ما تفعله بالضبط الحكومة فى قضية «عقد مدينتى».. فمنذ صدور الحكم النهائى من المحكمة الإدارية العليا ببطلان العقد، وتصريحات المسؤولين تقول لنا شيئاً واحداً: انتظروا اجتماع مجلس الوزراء يوم الأربعاء المقبل، لابتكار «تخريجة» جديدة تجعل المخالف مشروعاً، والخطأ فضيلة، والممنوع مسموحاً.. وكفى الله المؤمنين شر القتال.. وكل شىء تمام.. الحكومة العبقرية فى القرية الذكية ستغير «لافتة مدينتى».. ويبقى الوضع كما هو عليه.. ليس وضع «مدينتى» فحسب، وإنما «أوضاع» كل الأراضى على خريطة مصر التى بات سهلاً حذف أسماء المدن منها ووضع أسماء أشخاص.. والجغرافيا تتغير أحياناً وفقاً لإرادة الأنظمة الحاكمة..!
الحكومات الحقيقية تستثمر ظرفاً كهذا فى إصلاح الخلل من جذوره.. تبنى المستقبل بشفافية، بدلاً من الضحك على الناس بتغيير اللافتات.. لذا كان واجباً على حكومتنا أن تفكر فى واقع ومستقبل البلد بأن تأخذ الحكم القضائى فرصة لإعادة فتح الملفات المغلقة.. كل من خالف يحاسب، وتوضع قواعد دقيقة وعادلة ل«منح» الأراضى المملوكة للشعب.. ولابد أن تكون هذه القواعد بأثر رجعى حتى نصلح الأمر برمته.. وليس ضرورياً أن نحاكم المخالفين، وإنما العدل يلزمنا أن يدفع كل من أخذ الأرض سعراً عادلاً لما أخذ، والملفات عند الحكومة، وهى أكثر من يعرف لأنها أعطت وفرّطت فيما لا تملك..!
حكومتنا حاولت خداعنا بحركة لا تنطلى على أحد.. ملأت الدنيا صراخاً بعد صدور الحكم: فيه ناس غلابة سوف تضيع حقوقها.. «25» ألف حاجز فى «مدينتى» و95 ألفاً من حملة أسهم «مجموعة طلعت مصطفى» و150 ألف مواطن يعملون فى المشروع.. «درع بشرية» وضعتها الحكومة حول سور «مدينتى».. والجدع يقرب.. و«الدروع البشرية» سياسة المخادعين، وهى أيضاً لا ترسم مستقبلاً، ولا تحل مشكلة، وإنما تصلح فقط لمن يريد أن يتهرب من مسؤوليته أو يتواطأ لإخفاء صورة بشعة..!
حكومتنا لا تريد أن تعترف بأن القضية أكبر من «مدينتى»، وهى أيضاً لا تريد أن يطهِّر البعض ثروته.. فهى بمقدورها أن تقول «مكانك» وتعال نعيد تقييم أسعار الأراضى بما يضمن حقوق البلد.. وهى تعرف أن بمقدورها أيضا حماية كل أصحاب الحقوق، سواء الحاجزين أو حملة الأسهم أو العمال.. ولكنها اختارت أسلوب «الالتفاف».
يوم الأربعاء المقبل، ستتوجه الحكومة بكامل تشكيلها إلى موقع «مدينتى» وستنزع لافتة «ممنوع» بحكم قضائى، وتثبت لافتة «مسموح» بقضبان الخداع والمصادرة على المستقبل..!
قال لى رجل أحترمه: «الظلم الذى يقع على شخص تزول مرارته مع الزمن.. أما الظلم الذى يلف وطناً كاملاً فلا تزول مرارته حتى قيام الساعة»..!
melgalad@almasry-alyoum.com