من المقولات ما يحتاج أحياناً إلى تأمل وإعادة طرح لنرى فيها ربما وجهاً آخر للحقيقة. وأحسب أن مقولة إننا مجتمع فقير هى نموذج للمقولات الجديرة بالنقاش. إذا احتكمنا للأرقام التى تحتشد بها التقارير الدولية والندوات ووسائل الإعلام يمكن القول بطبيعة الحال إننا مجتمع فقير. فالأرقام تؤكد أن متوسط الدخل السنوى للفرد فى عشر دول عربية من بينها مصر لا يزيد على ثلث دخل مواطن ماليزى، وسبع دخل مواطن إسرائيلى. والأمر الواقع الذى يمكن إدراكه بالمشاهدة اليومية يؤكد الأرقام السابقة. ولكن حين يتأمل المرء ما يزخر به مجتمعنا من موارد وثروات وإمكانات طبيعية وبشرية مهدرة ومعطلة يصل دون ما مبالغة لخلاصة أخرى مغايرة مؤداها أننا لسنا بالضرورة مجتمعا فقيراً! لن نسعى لإثبات هذه الخلاصة بمماحكات لفظية مثل عبارة يوسف إدريس الشهيرة التى تطربنا موسيقاها حين كتب عن فكر الفقر وفقر الفكر! أو بمقولات حماسية عن العقول والكفاءات التى لا نحسن استغلالها فى مصر وبلاد العرب عموماً. ولكن يمكننا إثبات ذلك من خلال الاحتكام إلى ظواهر ثلاث فى حياتنا اليومية تسهم إلى حد كبير فى أن تجعل من مجتمع ما غنياً أو فقيراً بحسب رؤيتنا وثقافتنا لكل واحدة منها. الظاهرة الأولى هى الهدر المالى بكل أنواعه ومظاهره وأدواته. ونحن من هذه الزاوية أمة الثروات والإمكانات المهدرة. والهدر الذى أقصده يشمل عدداً من السلوكيات التى تنضح بها حياتنا اليومية مثل الإسراف والمظهرية والمبالغة فى إنفاقنا. لدينا مسؤولون غير مصابين بآفة المظهرية والإسراف لكنهم مجرد استثناء. والأخطر فى ظاهرة الهدر والإسراف فى حياتنا أنها تمثل سلوكاً مؤسسياً وفردياً فى الوقت ذاته. فالمؤسسات الحكومية تتحدث عن التقشف بأكثر مما تؤمن به وتمارسه بالفعل. ومظاهر الهدر والإسراف فى هذه المؤسسات جليّة ومعروفة. وتقارير الجهاز المركزى للمحاسبات تعج بالكثير من هذه المظاهر بالأدلة والأرقام الموثقة. يكفى أن نذكر فقط أن الهدر المالى فيما عُرف بقضية نواب العلاج الحكومى بلغت قيمته ملياراً ونصف المليار جنيه. والهدر الذى كانت وزارة التربية والتعليم تبدده على كتب مدرسية أقرب إلى الصورية، لأن أبناءنا لا يلتفتون إليها، كان قد تجاوز المليار جنيه تحاول الوزارة تخفيضها حالياً. وللهدر فنون وأشكال يصعب الإحاطة بها وأهم ما فيه أنه يتسم بالمراوغة والإفلات من شباك القوانين واللوائح، وويل للمسؤول الذى يحاول مكافحته فيصبح أشبه بمن يدخل عش الدبابير. جزء كبير من الهدر مبعثه المظهرية ورغبة الشعور بالأبهة والترف وفقدان الشعور بحرمة المال العام. لا نعرف على وجه التحديد كم يمثل إجمالى الهدر والإسراف والمظهرية وسوء الإنفاق فى موازناتنا السنوية، لكن الأرجح أنه رقم هائل كان يمكن توظيفه فى مجالات واحتياجات أخرى حقيقية وملحة. والظاهرة تتجاوز المؤسسات الحكومية لتشمل سلوكيات الأفراد وثقافتهم وتكشف عن عطب ما فى ترتيب الأولويات. فالهاتف المحمول ولوازمه وفاتورته باتت بنداً أساسياً ومرهقاً فى ميزانية الأسر الفقيرة قبل المتوسطة. وإذا كان نحو 40% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر، كما يقال، بينما يوجد فى مصر نحو أربعين مليون مشترك فى شبكات الهاتف المحمول فهذا يؤكد أن ثقافتنا تعانى من سوء توزيع الإنفاق على الأولويات. أما الإسراف الصارخ المستفز الذى نراه فى حفلات الأغنياء الجدد ونسمع عنه فى المصايف الفاخرة فهو دليل إضافى آخر على كم التناقضات الاجتماعية والألغاز الحضارية فى حياتنا. الظاهرة الثانية هى عدم توظيف مواردنا بما فيه الكفاية للحصول منها على أكبر عائد ممكن. يتساءل المرء أحياناً: هل نحسن الاستفادة حقاً بما لدينا من أراض منبسطة، ومناخ معتدل طوال العام، وشمس ساطعة شاهدة على تناقض أحوالنا، ونهر من أطول أنهار العالم لكننا من عجب نشكو من قلة المياه؟ لقد أبهرت إسرائيل العالم منذ عشرات السنين بحسن ترشيدها لاستخدام المياه وأصبحت من أبرز دول العالم المتقدمة زراعياً وأقامت الكيوبتزات الزراعية الناجحة واستخدمت نظم الرى بالتنقيط بنجاعة كبيرة. أما نحن فمازال نقاشنا مستمراً منذ سنين طويلة حول إمكانية استخدام طرق الرى الحديثة دون جدوى، ونتحدث عن مزايا وفوائد استخدام الطاقة الشمسية فى منطقة هى من أغنى مناطق العالم بالطاقة الشمسية لكن جهودنا وخططنا فى هذا المجال مازالت دون المستوى المطلوب بكثير. حتى القمامة التى تملأ شوارعنا لم ننجح بعد فى إقامة ما يكفى من شبكات مصانع لتدويرها وإعادة استخدامها فى عشرات بل مئات أنواع المنتجات التى نحتاجها وتركنا هذه الثروة نهباً للاستخدام العشوائى غير المنظم من قبل جامعى القمامة فلا نجحنا فى تدويرها ولا خلّصنا الشوارع منها بالحد الأدنى. نحن إذاً مجتمعات غنية من منظور مواردنا وثرواتنا التى منحتنا إياها الطبيعة دون أدنى جهد منا. دول أخرى فى العالم لا تملك ولو جزءاً يسيراً من هذه الموارد والثروات مثل اليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية. وعلى الرغم من ذلك فإن فقر الطبيعة وقسوتها فى هذه البلدان لم يمنعا من قيام مجتمعات متقدمة غنية بينما غنى الطبيعة لدينا لم ينتج للأسف سوى التخلف والفقر. الظاهرة الثالثة هى تعاظم الثروات العربية الفردية دون أن يضطلع أصحابها بمسؤولية اجتماعية ودور نشط فى العمل الخيرى لصالح المجتمع. أعرف بداية أن التعميم غير جائز فى هذا الموضوع وأن لدينا نماذج مضيئة لأثرياء ورجال أعمال يتنامى دورهم الاجتماعى وأنشطتهم الخيرية عاماً بعد عام سواء داخل مصر أو خارجها. وما قرأنا عنه مؤخراً بشأن قيام رجل أعمال سعودى شاب بتخصيص ثلث ثروته بعد استئذان والده للإنفاق الخيرى هو خبر يثلج الصدور. لكن وبخلاف هذه الحالات الفردية والمواقف الاستثنائية فالواقع أننا فى بلاد العرب لم نصل بعد إلى الدرجة التى بلغتها المجتمعات الغربية على صعيد الدور الخيرى والعمل الاجتماعى للأثرياء ورجال الأعمال. يكفى أن نعرف أن حجم التبرعات الخيرية فى بلد مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية قد بلغ ما يقرب من 300 مليار دولار سنوياً. وما ينفقه الملياردير الأمريكى بيل جيتس، صاحب شركة مايكروسوفت، على العمل الخيرى، وكذلك ما قام به مؤخراً الزوجان الأمريكيان جوردون مور وبيتى إذ تبرعا للأعمال الخيرية بنصف أسهم شركتهما «إنتل» بما قيمته خمسة مليارات دولار دفعة واحدة، أصبح مضرباً للأمثال. السؤال الآن: ترى لو عرف مجتمعنا ظاهرة الإنفاق الخيرى للأثرياء ورجال الأعمال على نحو ما تعرفه المجتمعات الغربية أما كان يمكن لمجتمعاتنا أن تصبح أقل فقراً؟ لو كانت لدينا ثقافة بيل جيتس وجوردون مور فى الدور الاجتماعى لرأس المال أما كان يمكن لمدارسنا أن تكون أكثر تطوراً وأقل تكدساً؟ «لو» لا تفتح بالضرورة للأفراد عمل الشيطان! بل يمكنها أن تفتح للأوطان آفاق التقدم لتؤكد أنه ليس دقيقاً القول إننا مجتمعات فقيرة! ■ ■ ■ يقول الشاعر الراحل أمل دنقل: «... أيتها الحمامة التى استقرت فوق رأس الجسر وعندما أدار شرطى المرور يده ظنته ناطوراً يصد الطير فامتلأت رعباً ...!» [email protected]