عملها الأبنودى وعاد يكتب شعرا عن ناصر. عملها وأعاد إلى الذاكرة وطنيات الستينيات الخالدة. كتب الأبنودى مخلصا وليس متاجراً بناصر فى زمن: من يمدحه يطلع خاسر.. ويشبروله.. أيامه. سمى الأبنودى ما كتبه، تناتيش للذكرى.. لأنه على يقين: لو ها كتبك ما تساع أقلام.. ولا كلام غالى وأوراق. أشعر الأبنودى ونشر فى المصرى اليوم عن الذي: خلى بلاده.. أعز بلاد.. ليها احترام فى الكون مخصوص. كتب بعد أن: دلوقت رجعوا الفقرا خلاص.. سكنوا جحورهم من تانى. كتب عن الذي: رحل معاك زمن الإخلاص.. وجه زمن غير إنسانى. ليس ما كتبه الأبنودى مجرد أشعار يلقيها شاعر كبير فى مناسبة ما، لكنه كتب استشعارا بالمواطن البسيط الذى يشتاق إلى زمن لم يكن فيه فساد أو سمسرة، لم يكن فيه لعبة اخطف واجرى، يكتب عن زمن الآن: فيه ناس بتنهب وتسوف.. لا يهمها من عاش أو مات. يكتب عمن: عشنا الحياة وياه كالحلم.. فلا فساد ولا رهن بلاد. يكتب الأبنودى وما أحلى ما يكتب، وهو الذى كتب عن المواطن فى كل هيئاته. لقد استفزه نهش الرجل وتاريخه وهو الذي: أعداؤه كرهوه ودى نعمة.. من كرهه أعداؤه صادق.. فى قلبه حاضن أمة.. خير وهمة ومبادئ. استفزه أن ينهشه الذين استفادوا من وجوده، استفادوا من ثورته والمجد الذى صنعه لبلاده، الذين قال عنهم فى قصيدته: لولاه ما كنتوا اتعلمتوا.. ولا بقيتوا «دراكولا».. ياللى انتوا زعما وإنجازكو.. دخلتوا مصر الكوكاكولا. لقد عاش ناصر فى ضمير الجماهير التى أحبته، فى حياته وفى مماته، فهو فى قلوب الناس لم يمت، لأن الجماهير ارتبطت به فى مصر والعالم العربى الذى استشعرت فيه نبل نواياه ومقاصده وتعاطفه وتفهمه لمشاكلهم، وعبر بصدق عن تطلعاتهم وآمالهم. لقد استطاع قائد ثورة يوليو أن يمثل أغلبية الشعب تمثيلا صادقا وأن يدافع عن الأمانى القومية دفاعا حقيقيا واستطاع بذلك أن يتحول إلى رمز للحركة الوطنية، فبايعته الجماهير العربية وارتضته زعيما فى مكانة لم يحصل عليها من قبل أى زعيم آخر، لا من حيث اتساع أفقها وشمولها من العراق إلى المغرب، ولا من حيث نوعيتها، فقد كانت زعامة عبد الناصر تختلف من حيث المادة التى تتكون منها، فهى تنبثق عن الشعب، عن جموع طبقاته وفئاته وأفكاره، وهى تنبثق عن أمانى الشعب وعن مطالبه التى نادى بها منذ قرن قبل ناصر، وعن شعاراته التى رفعها منذ أن عرف العمل السياسى الحديث، وعن أحلامه التى أخذت تتراءى له منذ أن أقلقت باله كوابيس التخلف والاستعمار والتفرقة والفقر، وعن تراثه وكيانه القومى ومصالحه، وهى باختصار تمثل كل العرب. لقد كان ناصر زعامة جماهيرية حقيقية وغير مصطنعة، نفذت إلى قلوب الجماهير العربية ووجدانها فى أقطار لم يكن لعبد الناصر سلطان عليها، بل كانت بعض حكوماتها تسعى للقضاء عليه وعلى صورته فى وجدان الناس. لقد كان ناصر قادرا على معرفة مشاعر الجماهير، وقادرا على حشد الشعب فى أى وقت وفى أى ظرف، وعندما أعلن تنحيه فى 9 يونيو 67 خرجت المظاهرات الحاشدة مجسدة الرفض الشعبى الكاسح لتنحيه، وفى ساعات قليلة استطاع أن ينقل شعبه من حالة الحزن والشعور بالمهانة إلى حالة من الصمود والإصرار على تجاوز الهزيمة، لقد فقدت مصر والأمة العربية رجلا كان همه الأول، القضاء على الظلم الاجتماعى، رجلا لم يعرف عنه محاباة أو محسوبية، فضلا عن عزوفه عن أى امتيازات مالية له أو لأسرته أو أى مظاهر للترف أو الأبهة أو التميز الاجتماعى، لقد ارتبط ناصر بتراب هذا الوطن وتاريخه وأهله، وهو ما صاغ وحافظ على صورته حية فى ضمير هذا الشعب. وقد عاد الأبنودى ليكتب مواويله وتناتيشه عن رجل عظيم، والأمر وما فيه كما قال الخال عبد الرحمن يخاطب ناصر: أنا مشتاق.. فقلت أمسى عليك وأنام.