لا أفهم الضجة التى يثيرها عدد من المعيدين والمدرسين المساعدين بجامعة عين شمس، هم يحتجون على قرار اتخذه رئيس الجامعة بإحالتهم إلى أعمال إدارية، بعد أن قضى كل منهم خمس سنوات دون أن ينجز واجبه العلمى فى إعداد الماجستير أو الدكتوراه والواضح أن بينهم من كان فى بعثة بالخارج، الغريب أنهم يتهمون رئيس الجامعة بإهدار المال العام، لأن المبعوث كلف الجامعة - من المال العام -حوالى نصف مليون جنيه، وتحويله إلى عمل إدارى يعنى إهدار هذا المبلغ، والمعنى أن تدفع الجامعة المزيد، لأن السادة المبعوثين لم ينتبهوا إلى مهمتهم الأساسية وهى البحث. المحتجون يعتمدون على مماحكات قانونية وإجرائية، ويتهم أحدهم رئيس الجامعة، وفقاً لما نشرته «المصرى اليوم»، صباح الاثنين الماضى، بأنه أساء تطبيق القانون والتزم بالنص الحرفى له. المفترض فى الجامعات أن ينجز المعيد رسالته للماجستير فى عامين أو ثلاثة على الأكثر، والدكتوراه فى ثلاث سنوات، والحد الأقصى خمس سنوات، فإن كانت مجالس الأقسام تمد عاماً أو عامين، فهو التجاوز غير المحمود، وفى زماننا الذى يتيح الحصول على المعلومات والمراجع والمصادر أسرع وأسهل يصبح عامين، زمن كاف تماماً.. أما أكثر من خمس سنوات فهو التنطع على المال العام وعلى القانون واللوائح. وإذا كانت الجامعة توفر طلاباً للدراسة بالخارج ويتقاضون رواتب، ويكلفون ميزانية الجامعة الكثير، فالواجب أن يتفرغوا تماماً للبحث العلمى وللدرس، ولو قاموا بذلك لأنجزوا هدفهم ونالوا الدرجة العلمية.. وأظن أن رئيس جامعة عين شمس اتخذ قراراً صحيحاً، لكنه غير مكتمل، فهؤلاء السادة الذين كلف كل منهم ميزانية الدولة حوالى نصف مليون جنيه دون فائدة حقيقية، عليه أن يعيد هذا المبلغ وأن يحاسب فيما أنفقه، ولا يكفى تحويله إلى عمل إدارى.. ومن الواجب أن نذكر هنا بواقعة من زمن محمد على والى مصر، فقد كان يرسل البعثات ويتلقى تقارير عنهم باستمرار ويجرى امتحاناً لكل منهم عقب عودته، وحدث أن ذهب أحدهم ولم يحقق أى إنجاز علمى، وحين عاد طالبه الباشا بأن يقدم ما أنجزه، سواء أكان كتاباً كما فعل رفاعة الطهطاوى، أو أن يباشر العمل فى أحد المواقع، لكنه لم يقدم شيئاً وقرر الباشا أن يعاقب ذلك المهمل بأن حكم عليه أن يجلس على باب الأزهر وأن يعمل ماسح أحذية للطلاب وللمصلين، حتى يراه كل دارس بالأزهر ويتذكر أنه إذا أهمل فى الدرس والبحث فإن ذلك هو المآل. ونحن نتألم كل عام حين تجرى مسابقات لاختيار أفضل خمسمائة جامعة بالمعيار الصينى، لن نتحدث عن المعيار الألمانى أو الأمريكى أو الإنجليزى، وتخرج جامعاتنا خارج التصنيف، بينما نجد عدة جامعات من إسرائيل ومن جنوب أفريقيا، ونلوم الجامعات والقائمين عليها.. بصراحة تامة نحن بإزاء باحثين فشلوا أو أهملوا فى البحث ويرفضون أن يطبق عليهم القانون ثم يحتجون أمام مبنى وزارة التعليم العالى ويناشدون الرئيس التدخل، الاحتجاج مطلوب بل هو واجب حين يقع ظلم، لكن أن يتم الاحتجاج كى لا يطبق القانون، فهو الغريب حقاً.. وكأنه مطلوب أن نكافئ من تقاعس أو أهمل أو ثبت عجزه، وفشله. المحتجون يطالبون الوزير أن يتدخل ويناشدون رئيس الجمهورية، كذلك أن يتدخل، ووفق الصورة التى نشرتها «المصرى اليوم»، حمل المحتجون لافتة مكتوب عليها «لا للإساءة لسمعة مصر» وهو شعار كانت السلطة ترفعه باستمرار لتخويف المعارضين، فإذا بهؤلاء يستعملونه، والإساءة الحقيقية لسمعة مصر أن يستمر باحث مهمل أو فاشل فى هيئة التدريس، ولو كانوا باحثين بحق لما ألحوا على السلطة السياسية أن تتدخل فى صميم عمل الجامعة وأن يدخل الضغط السياسى لتعطيل القانون، وكفانا تدخلاً سياسياً فى أمور الجامعات والتعليم، اعتدنا أن يتم رفع نسب النجاح فى الثانوية العامة لأسباب سياسية «تهدئة للرأى العام»، والنتيجة أن ندفع إلى الجامعة بطلاب ضعاف علمياً، واعتادت الجامعات أن تضيف درجات الرأفة للطلاب كى ينجحوا أو أن يحصلوا على تقدير، وسألت رئيس إحدى الجامعات مرة.. كيف نمنح طالباً درجات رأفة ليكون تقديره «جيد»، فرد بالقول: حتى نُيسر له الحصول على فرصة عمل!! ووجدنا مرة طالباً يلجأ إلى القضاء الإدارى لأنه لم يحصل على درجات الرأفة الكافية كى ينجح.. وهذا كله لون من الفساد العلمى والأكاديمى، ولذا ينفق المعيد أو المدرس المساعد السنوات دون جهد حقيقى، بينهم من يتفرغ للدروس الخصوصية وإعداد المذكرات وبيعها للمطلاب قهراً، وبينهم من ينشغل بمطالب أستاذه من دفع فواتير التليفون إلى متابعة المطبعة التى تطبع كتاباً للأستاذ وتوزيع نسخ منه على المؤسسات الصحفية والصحفيين.. ويصل الأمر إلى شراء الخضار للمنزل، وإذا انقضت السنوات الخمس يسهل استصدار قرار من مجلس القسم بمنحه سنة إضافية أو أكثر، طبعاً بمنطق «الرأفة»، وفى النهاية تتم «كلفتة» رسالة له ينال بها الدرجة، يحدث هذا منذ سنوات وأكثر منه، والوقائع بل المصائب كثيرة داخل الجامعة، والنتيجة النهائية، لا بحث علمى بحق وجامعاتنا خارج التصنيف العالمى، وفق كل المعايير، ليس لدينا سوى تلويح بالاعتصام والاستعانة بالرئيس، وصحيح أنه جرى فى مواقف عديدة مكافأة الفشلة أو الخوف من صوتهم العالى، لكن لا ينبغى أن يصبح ذلك قانوناً أو قاعدة وإن جرى فى بعض مؤسسات العمل وفى المجال البيروقراطى فلا ينبغى أن يكون داخل الجامعة وفى مجال البحث العلمى. رئيس جامعة عين شمس اتخذ قراراً شجاعاً، لكنه مطالب باستعادة الأموال التى أنفقها هؤلاء من ميزانية الجامعة، وعليه كذلك أن يُعيد النظر فى طريقة تعيين واختيار المعيدين، فأن يفشل المئات فى نيل الماجستير والدكتوراه، فهذا يعنى أن هناك خللاً ما فى الاختيار، فلم يكونوا على كفاءة ومقدرة علمية، ويبدو أن نيل تقدير جيد جداً أو امتياز فى سنوات الدراسة الأولى، تعنى أننا بإزاء طالب «حفظ» المقرر أو المذكرة الدراسية، وقام بتفريغها فى ورقة الإجابة، لكنها لا تعنى أننا بإزاء مشروع باحث لديه نواة عالم أو مفكر ومجدد.. ويجب كذلك إعادة النظر فى تحويل المعيد أو المدرس المساعد إلى وظيفة إدارية داخل الجامعة، فهذا يعنى أن نثقل الجهاز الإدارى بالجامعة، وهذا يعنى ثانية أن نكافئ من فشل وثبت عجزه، هذا النص فى القانون قديم، وضع حين كانت الوظائف الإدارية أكبر من عدد الخريجين، أما اليوم فيجب أن تمنح الوظيفة الإدارية لأحد الخريجين العاطلين فهو الأحق بها، أما من نال الفرصة وأهدرها، فلا يُمنح فرصة أخرى، إلا أن نلجأ إلى منهج محمد على، فنعينهم أفراد حراسة على بوابات الجامعة أو عمال نظافة داخل الجامعة ليراهم كل طالب ويعرف فضيلة الجهد وعقوبة الإهمال. ما قام به رئيس جامعة عين شمس هو خطوة أولى نحو الإصلاح، يجب أن تعقبها خطوات أخرى، قدر من الصرامة العلمية يصلح جامعاتنا.