ربما دخل مقدم الشرطة محمد محفوظ تاريخ التطور الديمقراطى فى مصر من أوسع أبوابه، خاصة فيما لو حكمت المحكمة الدستورية لصالحه وقضت بعدم دستورية المادة الأولى من قانون مباشرة الحقوق السياسية وأباحت بالتالى لضباط وجنود الشرطة التصويت فى الانتخابات. الرجل الذى كان يشغل رئيس قسم العلاقات العامة بمديرية أمن الإسكندرية، أقام دعوى أمام محكمة القضاء الإدارى فى الإسكندرية يطعن فيها على قرار مدير أمن الإسكندرية بعدم السماح له- وهو ضابط وفى الخدمة- بالمشاركة فى الانتخابات والاستفتاءات العامة، مؤسسا دعواه على عدم دستورية المادة الأولى من قانون مباشرة الحقوق السياسية التى تعفى أفراد هيئة الشرطة وأفراد القوات المسلحة من واجب التصويت فى الانتخابات طوال مدة خدمتهم، وهو ما وافقته المحكمة عليه وصرحت له بالطعن بعدم الدستورية. فى الثالث من نوفمبر الجارى أودع الضابط وشقيقه المحامى حسام محفوظ صحيفة الدعوى التى أصبحت من وقتها فى ذمة المحكمة الدستورية العليا. الطريف والمخيف فى الوقت نفسه أن وزارة الداخلية بدلاً من أن تساعد هذا الضابط أو على الأقل تكف أذاها عنه سارعت بفصله من الخدمة بسبب واهٍ هو أنه ألف قصة أدبية وأدلى بحديث عنها لإحدى الصحف!!. يمكن بالقطع أن نستنتج أن السبب الحقيقى لطرده من الخدمة هو أنه بخطوته الشجاعة أعاد تذكيرنا بأن الشرطة المصرية وفقا للمادة 184 من الدستور هيئة مدنية نظامية وليست عسكرية، وأنها وفقا لحرف الدستور فى خدمة الشعب، ولا تخدم سواه. نستخلص من تلك المعركة القضائية الرفيعة والتى أرجو أن يتابعها المهتمون عن كثب عددا من الدورس. الدرس الأول أن الطلب على الديمقراطية فى ازدياد، ومن فئات لم يكن من المتصور أن يهب بعض أفرادها للمطالبة بحقهم فى ممارستها وأن يدفعوا مهرا لها مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. والدرس الثانى أن خمسة عشر عاما من التبشير بأهمية المشاركة السياسية ودعمها لم تضع هباء، ففى ظنى أن المجتمع المدنى الذى بدأ عملية واسعة للتبشير بأهمية المشاركة السياسية منذ انتخابات 1995، بدأ يجنى ثمار جهده، رغم أنه فى سعيه لحث المواطنين على المشاركة كان يصطدم بدعوات بعض الأحزاب السياسية المعارضة لها بالمقاطعة، وهو أمر فيه من الجهل السياسى الكثير، فعندما تتأكد المعارضة من أن الانتخابات يجرى العبث بها فإن الحل الوحيد هو دفع الناخبين إلى التصويت لا دعوتهم إلى الامتناع عنه. الدرس الثالث أن تزوير الانتخابات والاستفتاءات بدأ يزعج حتى رجال الشرطة أنفسهم، فوفقا للبيان الصادر عن مركز هشام مبارك للقانون حول الموضوع، فإن هذا الضابط الشجاع قرر أن يشارك فى الانتخابات بنفسه ولو عن طريق الحصول على حكم قضائى، بعدما شاهد أحد أعضاء مجلس الشعب يقوم بتسويد أصوات الناخبين فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية عام 2007، فلما نهره وتصدى له أُبعد عن مقر الانتخاب وعهد إلى غيره بتأمينه!!، ولا يمكن افتراض أن هذا الضابط هو الوحيد ضمن هيئة الشرطة الذى تأذى من تزوير الانتخابات فلاشك أن هناك مثله مئات من الضباط لم يعودوا يقبلون أن يشاركوا فى حماية أى انتهاك لأصوات الناخبين أو يغمضوا عيونهم عنها، وهو اتجاه قد لا يكون محسوسا ولكن تلك الدعوى تقدم دليلا عليه. الدرس الرابع أن الصحافة المستقلة قد آتت أُكلها، وأنها بما تنشره من أنباء وآراء وتحليلات قد ساعدت على نشر مناخ مستنير يطالب بالديمقراطية ويسعى إليها ويرغب فى ممارستها، وبين فئات لم يكن من المتصور أن تتأثر بما يقال أو ينشر. ماذا نفعل كى نكون مشاركين فى الحدث لا شهودا عليه؟ فى تقديرى أن كبار فقهائنا الدستوريين وهم كُثر يتعين عليهم تقديم الدعم القانونى إلى المقدم محمد محفوظ وشقيقه المحامى حسام محفوظ فى معركتهما أمام المحكمة الدستورية العليا، ففى ظنى أن الحكومة سوف تحشد الكثير من فقهاء السلطان لمحاولة التشويش على المحكمة. أما المؤسسات المدنية والمعاهد العلمية المهتمة بالانتخابات فعليها البدء فى دراسة الآثار السياسية التى يمكن أن تترتب على حكم قد يصدر ويؤدى إلى السماح لأعضاء هيئة الشرطة بالمشاركة السياسية، وكيف يمكن أن نجعل منه إضافة إلى التطور الديمقراطى لا خصما منه. دائما ما كان يشكو أستاذ العلوم السياسية البارز الدكتور على الدين هلال من انخفاض الطلب على الديمقراطية، واليوم أتصور أن الطلب عليها فى ازدياد والمشكلة فقط هى نقص المعروض منها فى الأسواق.