(1) ما تشهده كوبنهاجن عاصمة الدنمارك حالياً من جدل سياسى وعلمى وفكرى حول ظاهرة الاحتباس الحرارى يلخص مسيرة الإنسانية منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم.. فقد نجح الإنسان فى استخدام التكنولوجيا لترويض الطبيعة.. فقفز على قيود الزمان والمكان وتخطى الحواجز والحدود وألغى المسافات وامتص فى شراهة ونهم موارد الطبيعة.. لكن ها نحن نكتشف أن للتقدم التكنولوجى المدهش ما لبعض الأدوية من آثار جانبية أحياناً.. آثار قد تهدر من سلامة كوكب الأرض ما أصلحته وزيّنته التكنولوجيا.. السؤال وقد راحت السكرة وجاءت الفكرة هو إذا كانت التكنولوجيا قد روّضت الطبيعة فمن يروّض اليوم التكنولوجيا؟ قمة المناخ العالمى التى تنعقد الآن فى كوبنهاجن تثير التأمل بقدر ما تستدعى التساؤلات. كتب الكثيرون عن الأبعاد الفنية والتداعيات المحتملة لأزمة الاحتباس الحرارى بما لا مجال معه لإعادة ما قيل، لكن رصد ما جرى ويجرى فى قمة كوبنهاجن جدير بالتعليق من أكثر من منظور وهى لا تقل فى أهميتها ولا فى خطورتها عن قمم ومؤتمرات عالمية أخرى ربما غيرت وجه التاريخ.. أبرز المشاهد التى أحاطت بالحدث العالمى المهم هو الوعى الإنسانى المتحضر الذى دفع نحو ثمانين ألف متظاهر إلى الخروج فى الشوارع تعبيراً عن قلقهم ومطالباتهم قمة المناخ العالمى.. حالة وعى راق جديرة بالإعجاب لكن المفارقة فيها تكشف عن التفاوت الحاد بين ما يشغل المجتمعات والشعوب! فهناك مجتمعات استوفى فيها الناس حاجاتهم الأساسية من المأكل والمسكن والوظيفة والرعاية الصحية، ومارسوا حرياتهم وحقوقهم العامة والخاصة على حد سواء.. فلماذا لا ينشغلون الآن بهموم وقضايا البيئة والمناخ من أجل أجيالهم المقبلة؟ من الطبيعى لمن امتلك الحاضر أن يفكر فى المستقبل. لكن على العكس من ذلك هناك مجتمعات أخرى مازالت تتعثر فى حبائل الحاضر، وهى تسعى للحد الأدنى من احتياجاتها الحياتية الأساسية، فكيف يتأتى لها الانشغال بمخاطر المستقبل وهى لاتزال بعد منشغلة بهموم الحاضر، بل مستغرقة فى أسئلة الماضى؟! الجدير بالرصد أيضاً أن قمة المناخ العالمى فى كوبنهاجن لا تنذر فقط بالمخاطر التى تهدد الأرض والبيئة والمدن الساحلية والمحاصيل الزراعية وتكلفة الإنتاج التى لابد أنها سترفع حتماً من أسعار المنتجات إذا استدعت الضرورة استخدام تقنيات جديدة صديقة للبيئة لتزداد معاناة الفقراء أكثر، يحدث هذا كله فى وقت لا ترتفع فيه حرارة الأرض فقط، بل إن حرارة المزاج الإنسانى نفسه آخذة فى الارتفاع لدرجة الحمى، فى ظل ما يشهده العالم من حروب وصراعات مسلحة وواقع احتلال وانتشار الأوبئة وتحقير الثقافات واستعداء الأديان.. هكذا تتعاصر سخونة الأرض مع حمى البشر وتوتر المزاج الإنسانى نفسه.. هى حمى شاملة تتطلب رؤية إنسانية جديدة، يحتاج إليها كوكب الأرض اليوم.. رؤية تتجاوز أكثر من مجرد مجىء شخص مثل باراك أوباما إلى سدة الحكم فى أمريكا، وقد عقدنا عليه آمالاً عريضة ثم سرعان ما اكتشفنا فى خطاب تسلمه جائزة نوبل للسلام أن ضراوة الواقع ومصالح الإمبراطوريات أكبر من خيالات السلام العالمى. مازلنا على أى حال نحتاج إلى رؤية إنسانية جديدة فى مواجهة ما يهدد كوكب الأرض من كوارث، لكن المشكلة أن هذه الرؤية تتطلب من العلماء والحكماء أن يرفعوا صوتهم عالياً فى هذا الفضاء المخنوق بالغازات المسكون بالمخاطر.. والعلماء والحكماء يحتاجون إلى إرادة سياسية يوفرها الساسة والزعماء.. وهذه الإرادة السياسية لن يكتب لها أن تنعقد بدون رأى عالمى واع وشجاع، يمثل قوة ضغط على صناعة القرار السياسى.. لكن المشكلة أن القرار السياسى العالمى ليس بيد الحكومات فقط، إنه يعتمد فى الحقيقة على شركات صناعية عملاقة ومصالح اقتصادية هائلة هى التى تتحكم فى كوكب الأرض وتؤثر من وراء ستار فى صناعة القرار السياسى فى العالم. (2) لقد كشف التقرير العالمى للتنمية البشرية الصادر عن الأممالمتحدة عام 2007/2008 أن مواجهة أزمة المناخ العالمى وضرورات التكيف مع البيئة بالحد من ظاهرة الاحتباس الحرارى يحتاج إلى 86 مليار دولار سنوياً فى حين أن الدول الصناعية المتقدمة لم تعرض فى قمة كوبنهاجن على الدول النامية سوى 2.5 مليار دولار سنوياً أى ما يقل عن 3% من الاحتياجات الفعلية لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحرارى. وعلى الرغم من الاحتجاجات والانتقادات على قمة كوبنهاجن فلعلّ الأمر الإيجابى فيها أنها أثارت الوعى العالمى بخطورة الانبعاثات الغازية الناشئة عن استخدام الطاقة، وما تمثله مستقبلاً من سيناريوهات كارثية بكل معنى الكلمة، لكن هذا الوعى العالمى- والمصرى-بالضرورة مطالب الآن بمواجهة تحديات من نوع جديد.. والجديد فى هذه التحديات، خلافاً لأية تحديات أخرى واجهها العالم أنها تضعنا وجهاً لوجه أمام تساؤلات كبرى بشأن ترويض جموح تكنولوجيا العصر من ناحية، ومتطلبات قضية التنمية المستدامة من ناحية أخرى. تحديان كبيران وتساؤلان مقلقان، لأنه لا يبدو أن العالم وبالذات الدول المتقدمة مستعدة لتنازلات كبيرة بشأنهما، والمواقف الدولية مثل الموقف الأمريكى منذ إقرار بروتوكول كيوتو يؤكد ذلك. على أى حال، هناك تحد أول يتمثل فى مواجهة طموح بل جموح إنسانى متزايد فى استخدام التكنولوجيا لترويض الطبيعة، والانبعاثات الغازية التى صنعت حالة الاحتباس الحرارى مجرد مشهد أول من مشاهد كارثية أخرى يمكن أن تحل بالأرض. ومن المعروف أن الفحم والنفط والغاز هى مصادر الطاقة الأكثر شيوعاً فى الاستخدامات التكنولوجية حتى اليوم، وما زالت مصادر الطاقة الأخرى مثل الطاقة النووية والشمسية وطاقة الرياح لا تمثل سوى نسبة ضئيلة فى العديد من التطبيقات التكنولوجية.. السؤال الذى يواجه الإنسانية اليوم هو هل يمكن حقاً ترويض التكنولوجيا وإخضاع جموحها الهادر لحد أدنى من الأخلاقيات والمثل؟ إنه سؤال قديم حديث سبق أن واجهته الإنسانية مراراً وكانت آخر محاولة فاشلة للإجابة فى مجال الاستنساخ البشرى. فى خصوص ظاهرة الاحتباس الحرارى هذا سؤال تتباين الإجابة عنه بحسب الأطراف المعنية به، وهى سياسات الدول، وطموحات العلماء، ورؤى المفكرين ومنظمات الدفاع عن البيئة، ومثلما يقال إن اختلاف المواقع يؤدى لتباين المواقف فمن الطبيعى أن تختلف مواقف هذه الأطراف، فليس علينا أن نعوّل كثيراً على سياسات الدول، ففى الدول المتقدمة يبدو السباق التكنولوجى شبيهاً بسباقات التسلح، حيث تتراجع المقولات الأخلاقية والمثالية أمام وطأة الرغبة فى امتلاك المزيد من التكنولوجيا، أما طموحات العلماء فهى كما نعرف بلا حدود، وللذكاء الإنسانى إغراء لا يقاوم فى قهر الطبيعة والانتصار عليها.. الأمل إذن فى دور المفكرين وقوى المجتمع المدنى ومنظمات الدفاع عن البيئة، حيث يمكن لهؤلاء أن يشكّلوا حالة من الوعى تسهم ولو بقدر فى تصويب الجموح التكنولوجى. وفى الأحوال كافة فإن منتدى سنوياً يتمخض عن قمة كوبنهاجن يضم صناع القرار والعلماء ومنظمات البيئة يمكن أن يضطلع بدور فاعل ومتجدد فى السهر الدائم على قضية المناخ العالمى، فالقضية لم تعد حكراً على طرف دون آخر بل أصبحت همّاً إنسانياً مشتركاً يوجب تضافر الجهود وتكامل الأدوار كافة. والتحدى الثانى الذى تكشف عنه ظاهرة الاحتباس الحرارى يتعلق فى الواقع بقضية التنمية المستدامة، والتنمية حق من حقوق الإنسان والشعوب نص عليه العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذى أقرته الأممالمتحدة عام 1966، ولطالما عرفت مجتمعات العالم الثالث الكثير من الصعاب والتحديات على صعيد التنمية سواء بسبب قلة الموارد وضعف الإمكانيات والتوزيع غير العادل للثروات وسوء الاستخدام الداخلى لها أو بسبب العلاقات الملتبسة بين دول الجنوب ودول الشمال، وما تأخذه كل منهما على الأخرى فى تفسير التفاوت التاريخى الصارخ بين مستويات التنمية ومعدلاتها بينهما. ثم جاءت أزمة الاحتباس الحرارى وما تمثله من أخطار محتملة لتزيد قضية التنمية تعقيداً، فالفشل فى مواجهة هذه الأزمة يعنى المزيد من التصحر والجفاف وندرة المياه والكوارث الطبيعية بفعل ارتفاع مستوى مياه البحار والمحيطات عن اليابسة، الأمر الذى قد يصل إلى حد غرق بلدان الأراضى المنخفضة عن مستوى سطح البحر أو بالأقل غرق المناطق الساحلية فيها، وما يترتب على ذلك من هجرات جماعية داخلية بأعداد كبيرة، هذه وغيرها أمثلة لما يمكن أن يتسبب عن ظاهرة الاحتباس الحرارى من أزمات وكوارث. ولعلّ أخطر ما يضاف لمأزق التنمية فى البلدان النامية بفعل ظاهرة الاحتباس الحرارى أمران: أولهما أن السبيل الوحيد للحد من تفاقم الاحتباس الحرارى هو استخدام مصادر طاقة بديلة ونظيفة واللجوء إلى تقنيات جديدة، وهى بدائل ستزيد حتماً من تكلفة الإنتاج مما يترتب عليه موجات من ارتفاع أسعار الكثير من المنتجات. الأمر الثانى أن متطلبات التنمية فى بعض الدول المكتظة سكانياً مثل الصين والهند على سبيل المثال يمكن أن تصطدم عاجلاً أم آجلاً مع ضرورات مواجهة ظاهرة الاحتباس الحرارى، فالصين وحدها مسؤولة كما يقال عن 27% من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحرارى، وذلك طبيعى فى ضوء معدلات التنمية المتصاعدة فى الصين والتطور الصناعى الهائل الحاصل هناك، وإذا عرفنا أن الصين ثانى أكبر اقتصاد عالمى الآن ليس فيها سوى 40 مليون سيارة منها 20 مليون سيارة خاصة أى بمعدل سيارة واحدة لكل 60 مواطناً صينياً. ولو ارتفع مستوى المعيشة فى الصين كما هو متوقع فى العقود المقبلة ليصل معدل السيارات التى تحتاج إلى وقود كالنفط والغاز إلى نفس المعدل الأوروبى مثلاً أو لمعدل قريب منه فإن هذا يعنى أن الصين وحدها ستحتاج لكل الإنتاج العالمى من النفط سنوياً، وهو أمر بصرف النظر عن كيفية تحققه لن يؤدى إلا لمزيد من الانبعاثات الغازية.. والتحليل ذاته يمكن أن يصدق فى المنظور القريب على حالة الهند التى تشهد بدورها طفرة صناعية فى ظل اكتظاظ سكانى كبير ومتطلبات تنموية هائلة. (3) والآن ماذا عن مصر فى هذا الملف العالمى المقلق؟ ربما تحتاج الإجابة عن سؤال كهذا إلى معالجة خاصة، لكن المؤكد أنه يجب علينا أن نأخذ الأمر بما يستحقه من جدية وأهمية. لا ينبغى أن يقال من باب الاستهانة إن مصر ليست من الدول المهددة فى وجودها مثل الدول المقامة على جزر منخفضة، لأنه حتى ولو كان هذا صحيحاً، فالصحيح الذى لم يذكر أن مصر تأتى من بين 20 دولة مهددة بغرق أجزاء مهمة فيها بفعل ارتفاع مستوى مياه البحر الناشئ عن ذوبان أجزاء من القطب الجليدى. التصريحات الأولى للمسؤولين عن هذا الملف تتحدث عن إنشاء مركز بحوث لدراسة تغيرات المناخ وإعداد الدراسات اللازمة لوضع سيناريوهات. «بحوث»، و«دراسات»، و«سيناريوهات» هل هذا ما نستعد به حقاً؟ والتجربة تعلمنا أننا نبحث وندرس وقتاً أو «دهراً» أطول مما ينبغى! وماذا عن «المشاريع» و«البرامج» و«خطط العمل» التى يجب البدء بها منذ الآن؟ وماذا عن أفكار بسيطة وغير مكلفة لكنها عظيمة الجدوى مثل التشجير الذى نتكلم عنه بأكثر مما نفعله. إن مجرد البدء بمشروع قومى للتشجير هو أفضل استثمار بيئى بسيط وذكى وقد نجحت فى تنفيذه دول غيرنا باقتدار ونجاح. الملاحظة الأخيرة أن سؤال توليد الطاقة النووية السلمية وهى طاقة نظيفة متجددة أصبح اليوم مطروحاً ومطلوباً فى مصر بأكثر من أى وقت مضى، لا سيما فى ظل نضوب مخزون النفط والغاز يوماً ما، وما تفرضه أزمة المناخ العالمى. ألا يدعونا هذا للمضى قدماً فى مشروع الاستخدام السلمى للطاقة النووية ليكون بحق مشروعاً للأجيال المقبلة؟