كان نهارًا لا يُنسى! دعوةٌ كريمة من د. أحمد جابر، أستاذ مادة «الإنسانيات» بجامعة القاهرة، لإلقاء محاضرةٍ عنوانها: «العمارةُ أمُّ الفنون»، على طلاّب الصفِّ الأول، قسم الكيمياء، بكلية الهندسة. خلعتُ عنّى ثوبَ الشاعرة، وبحثتُ عن ثوب المعمارية، الذى نَضَوْتُه منذ سنوات، حيث الصحافةُ والعمارةُ، كلاهما ذو إباءٍ، لا يقبل الشريك، فوجدت الثوبَ زاهيًا لم يزل. شبابٌ فى عُمر الزهر الواعد بكثير الرجاء. يحملون ما يجعلنا نراهن عليهم أن يخرجوا بمصرَ من عثرتها. بادرتُهم بإعلانى حسدى إياهم على أستاذهم د. جابر، المثقف الموسوعىّ، الذى سرَّب لهم حبَّ الثقافة والقراءة والبحث والتأمل وشحذ الذهن. أساتذتُهم الآن أدركوا أن العلومَ الإنسانيةَ حتميةٌ لطلاّب الهندسة، فيما أنا من جيل فصلَ، بحدِّ السيف، بين العلمىّ، والأدبىّ! فكنتُ أضطرُ إلى استعارة كتب الفلسفة وعلم النفس والتاريخ من زملاء القسم الأدبىّ. أقرأها خلسةً، بعيدًا عن عيون أمى الحاسمة، التى لم تسمح بأن أقرأ حرفًا خارج المنهج العلمىّ الجامد بمعادلاته الرياضية وهندسته الفراغية وكيميائه وفيزيائه! فى هندسة عين شمس، قبل عقدين، تعلمتُ أن العلومَ الإنسانية تخصُّ كليّات أخرى، مثل الآداب والحقوق والإعلام، فيما تسيرُ الهندسةُ فى دربها الناشف! لكن العمارةَ أمُّ الفنون، فكيف لا نتعلّم كيف يشعرُ ويفكرُ ويحلمُ هذا الإنسان الذى سوف نبنى له بيتًا؟! ناقشنا حتمية الفنّ فى حياة الناس. وكيف انتبه الإغريقُ إلى نزعة غريزية لدى الإنسان تدفعه للفن، نُشدانًا للّذّة الروحية العُليا، حتى هتفَ أفلاطون: «علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلِقوا السجون!». ناقشنا عائلةَ الفنِّ السداسية: العمارةُ، النحتُ، التشكيلُ (العائلة المكانية، التى تعتمد النِّسَبَ والمسافة والأبعاد)، والمسرحُ، والشِّعرُ، والموسيقى (العائلة الزمانية، التى تعتمدُ التوقيعاتِ الزمنيةَ والإيقاع). وكيف حاول الفلاسفةُ مدَّ جسور بين العائلتين، بتحليل العمارة، مثلا، بدلالات الإيقاعات الموسيقية، الخ. تكلمنا عن نظرية الجمال، وعن البساطة والتعقيد فى الفن. عن العمارة وتطورها، منذ ابتنى الإنسانُ مأوىً من جذوع الشجر، ليحميَه من الضوارى، والطبيعة القاسية، إلى أن اعتلى شواهقَ عالياتٍ يناطحُ بها السحابَ. مررنا على المدارس الفنية، بدءًا بالكلاسيكية، وعمارة العصور الوسطى، والباروك والروكوكو، والقوطية، والتفكيكية، والتكعيبية، والحداثية، وما بعد الحداثية، وصولاً إلى العمارة الخضراء، التى ظهرتْ مع خوف الإنسان من النفاد، الوشيك جدًّا، للطاقة والمياه والنفط. فرجع الإنسانُ، «بتأدّب»، ليصالح الطبيعة التى كمْ آذاها! ثم لينهل منها طاقةَ شمسها ورياحها وخُضرة أشجارها. رفضنا الحديثَ، ولو مرورًا عابرًا، عن العمارة الفرعونية التى أذهلت الوجود، خوفًا من الكلام عنها فى عجالة لا تليق بِهَوْلِها. تلك العمارة التى استحقت مصرُ من أجلها أن تكون البلدَ الوحيد الذى نُحِتَ من أجله عِلْمٌ خاصٌّ مشتقٌّ من اسمه: المصريات، Egyptology. تكلمنا عن حسن فتحى، شيخ المعماريين المصريين، صاحب «عمارة الفقراء»، وتكلمنا عن نبيل شحاتة، المعمارىّ المصرى الموهوب، صاحب مشروع «بيت القاهرة» بمدينة الفسطاط، جوار بحيرة مجرى العيونبالقاهرة، ذاك الذى يمثّل نموذجًا رائعًا للعمارة الخضراء التى تهدف إلى ترشيد إنفاق المياه وتعتمدُ الطبيعةَ مصدرًا للطاقة والتكييف والإضاءة. سألونى: هل مصرُ عربيةٌ؟ قلتُ: مصرُ ليستْ عربيةً، مصرُ مصريةٌ! هكذا أراها، ولستُ أدعوكم إلى رؤية ما أرى. لكنْ أدعوكم، بإصرار، أن تؤمنوا بأنكم أبناءُ سلالة من أرقى سلالات الدنيا، وعِرْقٍ من أرفع أعراق الأرض، أدعوكم أن تعلموا أنكم تحملون جيناتٍ حضاريةً علَّمتِ العالمين الفكرَ والعِلمَ والسياسة والفنَّ، وقتما كانتِ البشريةُ ترفلُ فى الجهالة والهمجية. أحثّكم، كأبناء بلد عظيم اسمه «مصرُ»، أن تعلموا أنكم نتاجُ مجد عريق، وعليكم أن تعملوا على استحضار حجر الفلاسفة، الذى هو استرداد هذا المجد، الذى تستحقه مصرُ. وعليكم رِهانُنا.