- نساء العائلة يتجمعن فجر العيد، يحملن سلال المخبوزات (الشُريك والمنين) وحبات التمر، جدتى الحاجة نفيسة تقود القبيلة نحو المقابر. وأنا، طفلة الأعوام الستة، يصعب علىّ أن أصدق أن تلك الزيارة تحمل طعم الموت. كيف يجتمع الموت والموتى مع هذا الجو الاحتفالى، الذى بدأ منذ أيام بالخبيز وتحضير المؤن المطلوبة للرحلة. ثرثرة نساء العائلة حول الفرن، أقراص العجين تتشكل وتتلون، وهذا «الشُريك»، الذى كنت أحرص على التهام بعض منه قبل توزيعه، ثلاثة أصابع طويلة رشيقة من العجين ملتصقة ببعضها البعض، وفوق ملمسها الوردى الناعم تتناثر حبات من السكر الخشن. تعلقت بذيل جدتى وذهبت مع القبيلة إلى مقصدها. وهناك رأيت الصغار والنساء يتلقون التمر والشُريك بابتسامات تتسع فى كل عيد. رأيت الجميع يلتف حول مدفن جدودى وعمتى، التى ماتت صغيرة، يتحدثون ويأكلون ويتلون آيات من القرآن فى طقس واحد متداخل، وتوصلت لقناعة طفولية بأن الموتى يحبون ذرات السكر الخشن وينتظرون الونس فى ضجيج العيد. - أحشر نفسى حول الطبلية الخشبية، التى التفت حولها نساء الجيران والقريبات. تقطع كل منهن قطعة صغيرة من العجين، تدس فى قلبها هذا الخليط السحرى من العسل والمكسرات، تكورها وتفردها قليلا، ثم تغرس على سطحها بخفة المناقيش المعدنية فتظهر زركشات على السطح. تسمح لى جدتى بأن أمسك بمنقاش وأشكل وجه الكعك كما أريد. أتشبث فى ذيل قريبتى الشابة وقد وضعت فوق رأسها عددا من الصاجات. أقف فى الفرن وسط النساء والأطفال أنتظر خروج الكعك، ساخنا وجميلا وعودته سالما إلى البيت. هناك تمسك جدتى بكل قطعة، تدس وجهها المنقوش فى السكر الأبيض الناعم، وترصها فى أوان كبيرة عميقة. للكعك أوانيه وللبسكويت والغريبة أوان منفصلة. أقضم كعكة فيختلط السكر مع جسد الكعكة فى فمى، وأمضى وقتا سحريا فى مضغ «العجمية» فى القلب. - العيد حرية. أطفال العائلة فى إجازة من المدرسة. نقضى العيد دوما فى «بيت الغورية»، بيت جدتى. نطمئن أن الكبار لن يتابعوا شقاوتنا ولن يمانعوا أن ندخل بيوت الجيران مفتوحة الأبواب للعب مع باقى الأطفال، كما أنهم لن يحاسبونا على صرف العيدية على أشياء صغيرة، لعب بلاستيك ومراجيح وتوك شعر ستتكسر بعد يومين فقط. أنتظر فى منتصف النهار عودة أمى من الإذاعة بعد قراءة نشرة الثانية والنصف، ودخول أبى بابتسامة واسعة وبعض الأصدقاء إلى المائدة الكبيرة. تكتشف جدتى أن أخى الأصغر «إسلام» قد اختفى بلا أثر. يبحث عنه الجميع، يتردد اسمه فى أرجاء البيت وفى بيوت الجيران وفى الشارع. يبلغ خالى البوليس وقد توتر الجو تماما وعينا أمى تنطقان بالفزع. بعد مرور ساعات عصيبة، نسمع خالتى تصرخ كما أرشميدس: «وجدته» فى نفس اللحظة، التى تهبط بكفها على وجهه الصغير. كنا نلعب الاستغماية ولم نلحظ أن إسلام قرر الاختباء فى دولاب غرفة النوم، وهناك قرر أن يأخذ تعسيلة صغيرة. بكت أمى فرحا وجريت أنا كى أحضر له كعكة تداوى اللطمة التى تلقاها. رفض أن يأكلها وهو محاط بكل هذا القدر من الفزع وعبارات اللوم والتقريع. أكلتها أنا بضمير مرتاح، بينما ذرات السكر الناعم تغطى نصف وجهى وتهبط على صدر فستان العيد الجديد.