وصول فيلم المسافر إلى مهرجان فينسيا وراءه مشوار طويل من الشقاء والإحباطات فى مناخ عام لا يحب الفن و ينظر إلى السينما إما كنوع من التسلية التافهة أو كمواعظ أخلاقية مباشرة. وقد أتيح لى أن أقترب من تجربة صناعة هذا الفيلم منذ كان حبرا على ورق، حيث قرأت السيناريو منذ حوالى ست سنوات فى إحدى لجان المشاهدة التى تقدم لها المخرج أحمد ماهر ضمن محاولاته للبحث عن منتج، ثم تطورات المشروع مع وزارة الثقافة ولحظات صعوده وهبوطه، ومراحل صنعه التى امتدت لشهور طويلة.. وحتى مشاهدة نسخة العمل الأولى منذ عدة أشهر. منذ اللحظة الأولى لقراءته أحببت السيناريو الذى كان يحمل اسم من ظهر راجل. الفكرة رائعة: ثلاثة أيام فى حياة رجل على مدار أكثر من خمسين عاما.. ثلاثة أيام تختزل حياة هذا الرجل وتروى الحكاية الأهم فى حياته الفارغة التى ضاعت هباء دون أن ينجز أى شىء يمكن أن يفتخر به. فى اليوم الأول نتعرف على »حسن« موظف البريد الذى يصل للعمل فى مدينة بور سعيد عام ،1948 شاب نصف متعلم خجول ومرتبك وحالم، يشاء القدر أن يمر فى هذا اليوم بأكبر تجربة فى حياته: يصعد إلى ظهر سفينة ليسلم »تلغرافا« إلى فتاة نصف أوروبية نصف مصرية اسمها نورا، جميلة وبريئة كأنها قادمة من عالم آخر، فيقع فى هواها وتعتقد هى أنه شخص آخر اسمه »فؤاد« فتقبل تودده إليها، لكن »حسن« الغشيم ينام معها بالقوة، ثم يفقدها عندما يظهر »فؤاد« الحقيقى، وبينما تتزوج هى »فؤاد« فى نفس الليلة يعود »حسن« كسيرا منهزما تحت أضواء الفجر إلى المدينة التى تحتفل بالعيد. فى الجزء الثانى من الفيلم الذى تدور أحداثه فى بداية السبعينيات نرى »حسن« الذى لا يزال وحيدا يجتر ذاته وحيرته فى زيارة إلى عائلة »نورا« بعد أن يصله »تلغراف« مفاجئ، حيث يعلم أنها ماتت بعد أن رحل عنها »فؤاد« وأنها أنجبت توأما ولدا وبنتا، لم يبق سوى البنت التى تحمل اسم »نادية«.. يشك »فؤاد« أن »نادية« قد تكون ابنته، لكنه لا يملك الشجاعة الكافية لمواجهة الأمر والتأكد منه، وبدلا من حمايتها يزوجها بالقوة لشاب أبله ويغادر المدينة تحت أضواء الفجر. فى الجزء الأخير الذى تدور أحداثه فى بداية الألفية الجديدة، نرى »حسن« الذى تجاوز السبعين يعيش فى الإسكندرية، لا يزال وحيدا هائما بلا هدف، يقتحم حياته فجأة شاب صغير هو »على« ابن »نادية«، ويقضى معه يوما مليئا بالمغامرات، فى نهايته عند فجر اليوم التالى، نرى »حسن« وقد نضج وتغير لأول مرة فى حياته.. يتراجع عن محاولة معرفة مدى انتساب »على« إليه ويقرر أن يصبح حفيده. لن يتضح الهدف من هذه القصة الغريبة إلا عندما تشاهد الفيلم أو تقرأ السيناريو، وهذا أول شروط العمل الفنى الحقيقى: أنه لا يمكن تلخيصه أو حكيه. فيلم »المسافر« يأتى من منطقة أخرى غير حكى القصص. فى الوقت نفسه يتبع الفيلم بناء سرديا متوازيا للأيام الثلاثة: من الصباح إلى الفجر، وعبر اليوم يمر البطل بمحطات متشابهة: لقاءات ومواجهات وطقوس للموت وأخرى للاحتفال، وهذا الاهتمام بالشكل والأسلوبية ليس مهما فى حد ذاته. المهم هو أنه الوسيلة النموذجية والوحيدة لحكى هذه القصة التى يريد »أحمد ماهر« أن يرويها. هذا التضافر الحتمى بين مضمون الفيلم وأسلوبه هو ما يرفع »المسافر« إلى مقام الأعمال السينمائية الفنية، طبعا بالإضافة إلى الكيفية التى يتم تنفيذ الفيلم بها فى عناصره المختلفة من الديكور والتصوير والتمثيل والمونتاج...إلى آخره. من خلال هذا التضافر بين المضمون والأسلوب والتنفيذ ينجح »المسافر« فى خلق »حالة«، »جو«، وعالم فوق واقعى يشبه العالم الذى نعرفه ولكنه يعطينا الإحساس بأنه مختلف، هو العالم كما يراه ويشعر به بطل الفيلم »حسن«، أو صانعه »أحمد ماهر«. هذا العالم القائم على الثنائية المدمرة بين الرجال والنساء يمتد خلفنا آلاف السنوات، عالم تشغل فيه علاقة النسب موقع الصدارة من تفكير الرجال فيه، وهى العلاقة التى تقوم عليها نواته الأساسية: العائلة، وأشكالها الأكبر الاجتماعية والسياسية والطبقية، و»حسن« يقف على حافة هذا العالم يتساءل عن رجولته وعن علاقة النسب المشكوك فيه التى تربطه ب»نادية« و»على«. وناديةهى صورة من »نورا« أمها، حبيبة »حسن« والصورة التى يحملها لأمه، كما أن »على« هو صورة من خاله المتوفى ومن »حسن« نفسه. ولذلك كنت أرى أن الاسم القديم للفيلم »من ظهر راجل« أكثر تعبيرا عن فكرته ومضمونه. فى اللقطة الأولى من الفيلم نرى »حسن« داخل عربة قطار كما لو كان جنينا داخل الرحم سيخرج بعد قليل إلى العالم. وفى اللقطة الأخيرة من الفيلم نرى »حسن« بعد أن ينجو من الغرق داخل أتوبيس نهرى ملفوفا بالأغطية كطفل رضيع، يتأمل فى افتتان امرأة خصبة ترضع طفلها ومحاطة ببقية أطفالها. فى السبعين من العمر يعود »حسن« أخيرا إلى حضن الأم. الرجل الذى يقضى حياته فى التساؤل عن مدى انتساب الأبناء إليه يدرك أخيرا أن الأمهات هن اللواتى يصنعن النسب ويصنعن العالم وليس الرجال. بناء الفيلم، كما ذكرت، يقوم على التماثل بين أجزائه الثلاثة: الحياة تعيد نفسها مرارا وتكرارا، الميلاد والموت ثم الميلاد مجددا مع فجر اليوم التالى. والأجزاء الثلاثة تحمل دورة الحياة نفسها. الجزء الأول يمثل الميلاد والثانى يغلب عليه الموت أما الثالث فيمثل عملية البعث أو الميلاد مجددا. والطبيعة تكمل الصورة وتعطيها بعدها الكونى. طقوس الموت واحتفالات الربيع والنهار والليل والفجر والنار والمياه، كلها رموز للموت والحياة. الأماكن فى الفيلم تعكس نفس الأحاسيس وتقويها: القطار والسفينة والأتوبيس، والمقابر والمشرحة، والبحر والمستشفى. النوعية الأولى ترمز للحياة والثانية للموت والثالثة للميلاد، ويساعد الديكور الذى ابتدعه »أنسى أبو سيف«، وتصوير الإيطالى »ماركو أونراتو« على خلق هذا العالم الذى يقف على الحدود بين الواقع والخيال مثل بطل الفيلم. أما التمثيل فأروع من فى هذا الفيلم هو »عمر الشريف« الذى يصنع ظهوره سحرا على الشاشة، ولكن التمثيل فى الفيلم مرتفع بشكل عام ومنسجم مع الحالة التى يريد الفيلم أن يصنعها. هذه طبعا قراءة أولى وعندما يعرض الفيلم فى مصر سيكون لنا معه حديث آخر.؟