كم مرة فكرت فيما تريد فوجدت «آخر» بداخلك يمنعك عن أن تكون كما تريد؟، لا تنزعج من السؤال، لأنك لست وحدك الذى يسكنك آخرون غيرك.. كلنا نعيش وداخل جسدنا وأرواحنا أشباح تسكننا، وعادات لا نختارها بل فرضتها علينا سنوات العمر، وشركاء البيت، وظروف المجتمع الذى نعيش فيه وننتمى إليه، وهذه العادات تأصلت على مدار الوقت فتسيدت على صفاتنا الأصيلة فينا وأصبح من الصعب أن نغيرها أو نتمرد عليها. يصل بنا الحال أحيانا لأن نشعر بمقولة محمود درويش المدهشة: «أنا لست لى» هذه الغربة الداخلية وهذا الصراع قد يبدو واضحا فى حياة المبدعين والنماذج المختلفة من البشر، بعضهم قد يسقط فريسة للعزلة والوحدة والاكتئاب، وبعضهم يقاوم ذلك الإحساس بمزيد من الثقة فى النفس، وفى الرب، وكذلك فى تلمس العون من أصدقاء متفهمين، والبحث عن لغة تواصل مع العالم قبل فوات الأوان. من يصدق أن البيت قد يتحول إلى زنزانة يقضى فيها الابن المختلف حكما بالسجن والنفى والانعزال، هذا ما رصدته الكاتبة الأمريكية «مارلين روبنسون» فى روايتها «المنزل» التى تحكى عن عودة الابن «جاك» بروح مغتربة إلى بيته، لكنه لايستطيع أن يتواءم مع بقية أفراد الأسرة التى تعتبره «الابن الضال»، لمجرد أنه يملك روحا مختلفة عنهم، وهو مايعبر عنه لأخته قائلا: «الروح هى ما لا تقدرين على التخلص منها». ورغم ذلك فهذا الابن الخارج عن المنظومة هو الأكثر قربا لقلوب أسرته فهو يمثل لكل منهم اللاوعى الذى لا يستطيعون الجهر به، إنهم يلعنوه فى العلن ويتمنونه فى الخفاء، النموذج المحبوب سرا والمنتقد جهرا! هذه القصة العائلية نالت عنها مارلين العام الماضى جائزة «أورانج» للسرد النسائى وهى جائزة بريطانية تمنح سنوياً لأفضل رواية مكتوبة بالإنجليزية. إن ما يحدث فى «المنزل» يحدث فى كل البيوت، وما حدث ل«جاك» قد يحدث لى ولكم، ولكل النفوس القلقة التى تعيش أسيرة الاختلاف وهو ما عبر عنه محمود درويش حين قال «أشبهك ولا أكونك. وأكونك ولا أشبهك»، أو كما قال المعذب الكبير كامل الشناوى «بعضى يمزق بعضى» غربة الاختلاف مؤلمة ولكن لحسن الحظ يرافقها شعور بالتميز والفخر، تدفع ثمنه، ولكن مذاقه يعوضك عن جراحك ونزفك تحت الجلد، وقرينك الذى يلهمك أحيانا ويعاتبك أحيانا.. يواسيك مرة ويزجرك مرات.. يساندك ويحاربك.. يمزقك ويداويك.. هو رفيق دربك وشريك حياتك هو فى النهاية أنت فكنه. علينا أن نقبل الاختلاف، وندرك أن التنوع هو أصل الحياة، ومن نراه مختلف عنا هو إضافة لنا لا يقلل من شأننا ولكن يكمل نواقصنا، لا داعى لأن نزرع فى نفوس المختلفين عنا أى إحساس بالنقص نتيجة اختلافهم، فلكل منا مكان تحت الشمس ودور فى الحياة، أو كما قال درويش ايضا «إن التشابه للرمال..»، فلنتعلم عظمة الاختلاف ونتأمل أن الله العزيز القادر أبدع فخلقنا بصور لا نهائية حتى لا يكاد المرء يشبه غيره، بل أجرؤ فأقول إنك من المستحيل أن تشبه نفس الشخص الذى كنته أمس.