يطلق البعض عليه رجل الإزالات أو البلدوزر، لكن الحقيقة أن تجربة د. سمير فرج فى الأقصر وبالذات ما يتعلق منها بالإزالات تؤكد لنا أن تحقيق أصعب الأشياء وأعلى الطموحات ممكن لكنه فن الإدارة.. وهنا «فن الإزالة». فالعشوائيات فى صعيد مصر هى نفسها العشوائيات فى العاصمة. سرطان مصر الأول.. يبدأ صغيراً ثم يكبر ويستفحل تحت مسمع ومرأى الأجهزة التنفيذية التى تغض الطرف مرة وتفسد مرات حتى تصبح تلك العشوائيات أمراً واقعاً، نضطر بعد ذلك للعمل على تحسين أحوال قاطنيها.. نعيش هذا المشهد فى القاهرة وضواحيها كل يوم.. حتى شوهت مدينة الألف مئذنة على مدار العقود.. فما بالك بعشوائيات عاشت بلا صرف أو كهرباء أو مياه فوق مقابر الفراعنة تتلف ما تتلف، وينهب أصحابها ما ينهبون من آثار وكنوز على مر السنين؟! ذاك كان حال العاصمة المصرية القديمة طيبة.. حتى أربع سنوات مضت حين تولى سمير فرج رئاسة المدينة وقرر تنفيذ رؤية شاملة لتطوير مدينة الأقصر.. اعتمدت على دراسة قامت بها الأممالمتحدة وظلت حبيسة الأدراج لسنين تنتظر قراراً حاسماً وتنفيذاً حكيماً يهتم بالإنسان قبل الأثر. وبين قرية «القرنة» بالبر الغربى ومنطقة طريق الكباش كانت الإزالات الأكبر - ربما أكبر عملية تهجير منذ نقل سكان النوبة الذين غمرت قراهم مياه بحيرة ناصر - وقضية الإزالة هنا تحتاج إلى تعويضات، حسم، بدائل وحسن إدارة واتصال مع المواطنين، وليس بلدوزرات تهدم بيوتهم بين ليلة وضحاها.. البدائل كانت لأهل القرنة فى منطقة سكنية متكاملة بدلاً من بيوت بلا صرف أو كهرباء أو مياه.. وتعويضات فورية لمن لا يريد أن يخصص له منزل ما بين 70- 75 ألف جنيه.. نفس الشىء تقريباً تم مع سكان طريق الكباش وهو الطريق الذى يربط ما بين معبدى الأقصر والكرنك، وينتظر أن يحول الأقصر إلى أكبر متحف عالمى مفتوح.. حيث يمكن للسائح أن يسير فى نفس المواكب المقدسة القديمة ما بين المعبدين.. تطل عليه الكباش من الجانبين فى أروع مشهد تاريخى. الزائر للأقصر الآن يمكن أن يرى بقايا بيوت القرنة فى البر الغربى بين واديى الملوك والملكات، ولا يمكن أن يتخيل المرء كيف كانت تلك البيوت تشوه هذا المشهد الأثرى الخلاب.. كيف كان يعيش الناس فى هذا المكان، بلا أى مقومات حياة، متمسكين بالجبل لأن به كنوز الفراعنة، فتصبح المقبرة جزءاً من البيت دون أن يعرف صاحبها قيمتها الأثرية أو التاريخية.. وفى طريق الكباش - حيث كانت الإزالة الثانية – مازال الأثريون يبحثون على بقايا الكباش التى كانت تزين الطريق، بعضها دمر تحت البيوت وبعضها دفن فى باطن الأرض.. عملية شاقة، ربما كان أخطر مراحلها نقل 3 مساجد.. وتبقى فى الطريق كنيسة العذراء تنتظر القرار. وبعد، هل كل أهل الأقصر سعداء بما قام به سمير فرج على مدار 4 سنوات من رئاسته لمدينة الأقصر قبل أن تتحول إلى محافظة؟ بالطبع لا.. فالبعض يرى أن المبلغ غير كاف، ومن كانت له بيوت كبيرة - حتى ولو كانت عشوائية – هو غير سعيد بالبيوت الأصغر، ومن كان يعيش فى قلب المقبرة الفرعونية لا يريد أن يتركها، حتى إن بعض أصحاب البازارات قرب المزارات السياحية يضايقهم النظام الذى يحدد أماكنهم.. فغياب يد الدولة دائماً أفضل.. لكن الجزء الأكبر من السكان، وبالذات من يعملون بالسياحة، يعرفون معنى ما قام به د. فرج، ليس فقط فى القرنة والكباش ولكن فى تطوير البنية الأساسية المنهارة، وتوسيع الشوارع وتنظيم البازارات، وتطوير الأسواق القديمة.. الآن الأقصر مدينة – عفواً – محافظة سياحية تستحق أن نفخر بها.. كما فخر بها أجدادنا. إن الإصلاح – أى إصلاح – لابد أن له متضررين ومقاومين.. ومهمة صانع القرار هى محاولة مساعدة المتضررين وإقناع المقاومين.. وليس الرضوخ لهم طالما لديه رؤية سديدة. أسير فى طريق الكباش ليلاً.. ما بين معبد الأقصر المضاء وكأنه قطعة من الماضى ومعبد الكرنك المهيب.. عشرات الكباش الجاثمة من عمق التاريخ تنظر إلينا.. أشعر بأن الزمن يلومنا على ما جنيناه بأيدينا على أرض طيبة.. أكاد أعتذر لكل الأجداد.. لو نفع الاعتذار. أفيق من سحر التاريخ إلى كابوس الواقع.. أقرأ عن إزالات «الهجانة». إنه الفارق بين فن الإزالة وعشوائيتها . فن يملكه البعض.. بينما ينقص كثيراً.. البعض الآخر.