حدثنى أستاذى الأثير، علامة التاريخ الإسلامى المعاصر، الدكتور عبدالحليم عويس غير مرة عن التجربة التركية، كان حديثه فى كل مرة يتدفق بحماسة غير عادية، بينما أتابعه بفتور أشد من حماسته تلك، وأشعر بهمومى وأعبائى من خلال الحركة التى أدور فى ركابها كساقية تلتهم الوقت والجهد حتى تكاد لا تبقى منه وأنا أردد مأثورة حسن البنا، رحمه الله «الواجبات أكبر من الأوقات»، حدثنى عويس عن شعور كولن «بالهم» وقدرته على نقل هذا الإحساس المرهف بالهم لأتباعه ورواده وتلامذته المخلصين، حدثنى عن مفهوم «الخدمة» وكيف يقومون بها فى تفان وإخلاص وتجرد، ربما كنت أردد فى نفسى ذلك وأنا أستمع منه لمثل تلك العبارات وأشاهد أصدقاءه الأتراك يدخلون ويخرجون ذهاباً وجيئة عليه لأنه يرتبط بهم بعلاقة ما ويقومون على خدمته باعتباره عالماً وداعية ممن ندر وجود مثله حالياً، فالزمن زمن قبض العلماء والصالحين حتى لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق. وفوجئت فى أكتوبر الماضى بدعوة وصلتنى من مجلة «حراء» - وهى مجلة تركية تصدر بعدة لغات خارج تركيا وتصدر باللغة العربية توزع ملايين النسخ فى كل عدد - لحضور ندوة تخصصية انعقدت فى جامعة الدول العربية بالتعاون مع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تبحث محاولات الإصلاح السياسى فى العالم الإسلامى وفى التجربة التركية.. «فتح الله كولن نموذجاً». غير أنى لاحظت اهتماماً غير مألوف بهذه الندوة فى الدوائر الثقافية والإسلامية كأن القاهرة كلها كانت هناك، ورغم حرصى على حضورها فإن سفراً مفاجئاً لى خارج البلاد حرمنى من المشاركة فيها والاستماع إلى الأصدقاء الأتراك والباحثين الذين أدلوا بدلوهم فيها وطالعت ما نشر عنها من مقالات وأبحاث وأخبار صحفية، غير أن القدر ادخر لى أن أطالع التجربة من خلال الواقع المعايش والمعاينة وليس فقط من خلال حضور ندوة أكاديمية متخصصة تتحدث عن التجربة، والبون شاسع جداً بين أن أسمع عن «تجربة» وبين أن أعايشها وأبصرها عن كثب، نلتقى أصحابها والذين يصنعون أحداثها بمستوياتهم المختلفة فى ميادينهم، وهكذا وجهت لى مجلة «حراء» دعوة كريمة مع صفوة من العلماء والمفكرين من دول عربية شتى وسافرت، السبت الماضى، والتقيتهم هناك وها أنا أكتب سطورى الأولى مباشرة من استانبول تأثراً بأحاسيس ومشاعر وعواطف جياشة ومشاهد وحكايات ومشروعات وعناصر كلها تدغدغ القلب وتحمله قسراً على إخراج الزفرات ساخنة وتدفع الدموع إلى طريقها من المقل فرحاً وسروراً حيناً وحزناً ونكداً أحياناً أخرى. «فتح الله كولن».. ذلك الرجل الغامض – هكذا بدا لى – الذى لا يقدر لك أن تلتقيه، فهو منذ عام 1999 يقيم فى بلاد العم سام، مرقد الشيطان الأكبر، الولاياتالمتحدةالأمريكية، فالرجل لا يلتقى هناك بالأجانب مؤثرا السلامة له ولهم ومضيقاً الخناق على كل الذين جل مهمتهم رصد الناس بالدسائس والمؤامرات، يلتقى فقط ببعض أنصاره من الأتراك يحملهم تعاليمه ويجيب على أسئلتهم وينقل نصائحه لدوائره «الخادمة» فى الداخل التركى، يظهر أحيانا قليلة فى بعض البرامج المتلفزة المسجلة بواسطة مريديه أيضاً، غير أن كتبه ودراساته تنهمر حاملة أفكاره هنا وهناك فى كل مكان من أنحاء المعمورة. عجيب أمر هذا الرجل.. سُجن غير مرة فى عقود مختلفة من حكم العسكر فى تركيا، وعندما سافر أواخر التسعينيات كان بفعل المرض الذى داهم قلبه المسكين «المهموم» واحتاج إلى العلاج فى «مركز كليفلاند الطبى» الشهير بأمريكا وأجريت له جراحة كبيرة بالقلب احتاج معها إلى البقاء للعلاج ثلاثة أشهر كاملة داخل المستشفى وبدلت له ثلاثة شرايين، وبينما هو يعانى آلام المرض شيدت ضده حملة دعائية عدائية فى تركيا تطالب برأسه، كان العسكر فى تركيا عام 97 تقريباً قد نجحوا فى الإطاحة بنجم الدين أربكان وقد كان رمزاً تركياً من رموز التنوير الإسلامى، وبقى الرمز الاجتماعى الإنسانى السلمى، فتح الله كولن، وقدم المدعى العام التركى قضيته وأدلته الواهية ضد رجل أعزل لم يوجه يوما كلمة نابية، أو صراخاً عنيفاً، لم يسع لتأليف حزب سياسى يمارس من خلاله عملاً سلمياً كأربكان وغيره من الساسة الأتراك الذين يحملون «الهم السياسى»، فهو لا يعرف السياسة ولا يمارسها فقد تركها طائعاً مختاراً، رغم كل مسالميته هذه قدموه إلى المحاكمة بتهمة المؤامرة الكبرى، واستغرقت محاكمته خمس سنوات كاملة بينما المتهم غائب عن قفص الاتهام هناك فى أمريكا، ربما لهذا السبب وجهوا الاتهام ليمنعوه من العودة، من حق العودة، كما يحرم الشعب الفلسطينى الأبىّ من حقه فى العودة لأرضه ودياره وبعد خمس سنوات حكمت المحكمة حكماً غريباً ببراءته براءة مشروطة!! أى لا يرجع ففى رجوعه إعادة للمحاكمة، ولكن المدعى العام لم يرضه الحكم فأعاد الدعوى من جديد فنظرت أمام محكمة التمييز التى أيدت الحكم وحسمته أعلى هيئة قضائية هناك تتشكل من 23 قاضياً عام 2008 عندما ألغت الحكم وألغت مشروطيته وجعلته بريئاً تماماً براءة الذئب من دم ابن يعقوب. غريب أمر هذا الرجل مرة أخرى.. لم يحنق ضد العسكر مثلما نحنق نحن فى بلادنا العربية! لم يسع إلى تكوين ميليشيات مسلحة كالتى اعتاد شبابنا تكوينها كلما شعروا بغصة فى حلوقهم من مظالم أو فساد! غريب أمر هذا الرجل الذى لم يأمر بشن الغارات فى وجه الذين يمنعون النور ويغلقون الأفواه وينزعون أمارات الهدى والإيمان! إن أقواماً منا دخلوا فى صدام مسلح مع الحاكم، ورغبة فى إذعانه قتلوا عسكره واغتالوا ضباطه وقادته، فلم يفلحوا، فاستهدفوا السياح الأجانب رغبة فى لى يده وإضعافه، فلما لم يفلحوا زرعوا القنابل فى البنوك ليدمروا اقتصاده!! لم يزرعوا بسمة فى الوجوه، ولم يغرسوا زرعا فى الحقول. فتح الله كولن.. بكّاءٌ بامتياز، لا يتكلم إلا وهو يبكى، لا يقرأ القرآن إلا وهو يبكى، استمعت لبعض كلماته عبر برنامج مسجل أنتجه المنتدى العالمى للوسطية يذاع قريباً على إحدى القنوات الفضائية الشهيرة وهو يبكى، هكذا قال لى بعض تلامذته. آمن به كثيرون.. تزايدوا يوماً وراء يوم، سعى الرجل إلى تدعيم الإيمان فى القلوب.. قلوب الناس من حوله، تسامع به شيوخ كبار وأجيال مختلفة من مراحل عمرية متباينة يشدون الرحال إليه فى أزمير حيث كان يقيم قبل مغادرته، التقيت واحداً من الشيوخ الذين زاملوه وتعرف عليه فى أواسط السبعينيات قص علىّ من القصص ما يثير العجب فانتظرونى أكمل لكم قصة رجل أظنه دخل كل بيت فى تركيا الآن.