فى مجتمع يعلى من شأن الرجل ولا يقبل أى مساس بصورته، تبقى قضايا الاغتصاب والتحرش بالذكور فى غرفة مظلمة، رغم أن حالات اغتصاب الذكور قد تفوق اغتصاب الإناث. الروائى حامد عبدالصمد امتلك شجاعة التصريح بتعرضه للاغتصاب فى روايته الأولى «وداعا أيتها السماء» التى كانت أقرب ما تكون للسيرة الذاتية، فلاقت هجوما كبيرا ليس من جانب الجمهور الذى صدمه الدخول إلى هذا العالم المحظور، بل كان موقف الروائيين منه أكثر عداء. وأمام أسلوب «عبدالصمد» ربما لا تستطيع تمالك دموعك فى بعض المواضع، وفى بعض المواضع الأخرى تذهلك بعض الكلمات الفجة التى تعبر بدقة عن حالة السخط التى بداخله، وقد تستوعب معاناته لكن دون أن تشعر تجاهه بالشفقة. الدكتور خليل فاضل، الاستشارى النفسى، قرأ رواية عبدالصمد، ويقدم تحليلا نفسيا من واقع خبرته فى التعامل مع الكثير من ضحايا الاغتصاب.. يقول: «إن حادثتى الاغتصاب اللتين تعرض لهما شاكر عبدالمتعال - بطل الرواية - كل منهما تبدو أكثر بشاعة من الأخرى، الأولى وهو فى سن الرابعة على يد (شكمان) الميكانيكى الذى لم يكمل عامه السادس عشر». ويضيف: «تعرضه للاغتصاب وهو فى سن الرابعة سبب له اضطرابا كيميائيا شديدا، خاصة أن طريقة الاغتصاب كانت شديدة الوحشية الأمر الذى سبب له عقدة شديدة جدا لانتهاك جسده فى ذلك الوقت المبكر من عمره». «لم أر فى حياتى كلها شيئا بهذه الدرجة من الألم والقذارة، مع أنها لم تكن آخر مرة أتعرض فيها لمثل هذا الامتهان، دفنت هذه الجريمة طفولتى وأحلام بقائى فى القاهرة».. تلك العبارة جرت على لسان «شاكر» عقب تعرضه لحادثة الاغتصاب الأولى. ويصف الدكتور فاضل ما حدث بأنه انتهاك قاهرى قذر لطفل صغير قادم من الريف، مشيرا إلى ذلك المشهد للطفل وهو يمسح برغيف الخبز ما علق به من الدنس. «فقدت منذ ذلك اليوم ثقتى بكل البشر، أصبح كل إنسان فى نظرى كائناً شريراً. إن تلك المدينة تخنق أولادها تحت أحجارها وتدهسهم تحت عجلات سياراتها وتبتلعهم فى أنابيب مجاريها». بهذه العبارة قرر الرحيل عن القاهرة، إلا أن ذلك الرحيل لم يجعله بمأمن عن التعرض لحادثة اغتصاب أخرى على يد مجموعة من الأطفال فى مثل سنه فى مرحلة ما قبل البلوغ. كان الأمر فى بدايته يشبه اللعبة من خلال تسابق الأولاد على إظهار ذكورتهم المبكرة، ثم تحولت اللعبة إلى اعتداء جنسى عليه، وخلاله لم يحاول أن يهرب أو يصرخ، بل استسلم.. وظل يتحدث إلى الله. الكثير من الانتقادات وجهت إلى حامد عبدالصمد، ووصلت إلى حد التهديد بالقتل، فاتهمه العديد من المتطرفين بالإلحاد بسبب بعض الكلمات التى جرت على لسان البطل مثل: «لماذا يا رب؟ لقد كنت أبحث عنك بشغف ولهفة طفل يتيم، أهذه هى إجابتك؟ هل يعجبك ذلك؟». لم يخبر شاكر أحدا بما حدث له فى المرتين خوفا من رد الفعل، ولكنه أخرج غضبه فى صورة عدوانية وعنيفة اعتبرها الدكتور فاضل بمثابة «مرض عقلى» ونوع من الجنون المؤقت بسبب ما تعرض له، ويظهر ذلك جليا - كما يوضح - عندما ضرب زوجته التى يعشقها ضربا عنيفا أدى إلى خرق طبلة أذنها. «هل سيصبح بعد تلك الحادثتين شاذا؟» السؤال الذى ظل يؤرق شاكر عبدالمتعال لفترة غير قصيرة منتظرا بلوغه الجنسى ليتأكد إذا كان شاذا أم لا، ومثل لقاؤه بالشاب الشاذ نقطة فاصلة فى الرواية حيث ظل السؤال يتردد بداخله : «هو أنا ممكن أبقى زيك؟». حوادث الاغتصاب تتسبب فى خلل جنسى لدى المتعرض للاغتصاب، فإما أن يتحول إلى الشذوذ وإما أن يتحول إلى شخص شديد الولع الجنسى، هكذا أشار الدكتور فاضل إلى تأثير الاغتصاب، موضحا أن «شاكر» سلك الطريق الثانى، سواء عن طريق العادة السرية أو عن طريق ممارسة الجنس مع أخريات. «لم تؤد آلام الاغتصاب التى عايشتها إلى أن أكون رفيقا بالأطفال، بل قادتنى إلى تقليد من عذبونى ودمروا حياتى، فالعنف لا يولد إلا عنفا»، هكذا قال بطل الرواية عقب محاولته تكرار ما حدث معه مع طفل صغير إلا أن ضميره أيقظه فى اللحظة الأخيرة ولم يكمل. الشذوذ وإمكانية تكرار فعل الاغتصاب مع أطفال آخرين ليست وحدها التأثيرات الناتجة عن الاغتصاب، بل قد يلجأ المغتصب للعيادة النفسية عندما يشعر بعجزه عن التعامل مع الناس، فهو يشعر بكره شديد تجاه البشر جميعا، ويحمّل والديه مسؤولية ما تعرض له، الأمر الذى يجعله ناقما عليهما . والقتل هنا ليس بعيدا عن تفكير المغتصب، خاصة إذا كان أحد مغتصبيه من أقاربه الذين يراهم بصورة مستمرة. التأثيرات النفسية لحادث الاغتصاب تبدو شديدة التعقيد، فالمغتصب يحتقر نفسه ويلومها.. ويلوم الآخرين، ولا يستطيع أن ينظر مباشرة إلى عينى أحد، فهو يعانى من إحساس عال بالمهانة، ويعوقه حادث الاغتصاب عن الاستمرار فى حياته بصورة طبيعية، ويعجز عن إكمال أى مشروع بدأه. وفى حالة «شاكر» استطاع أن يحقق نجاحات باهرة رغم عدم قدرته على نسيان ما تعرض له. «حالات اغتصاب الذكور فى مصر أكثر مما يتخيل أى شخص ولكننا نفتقد لأى إحصاء»، ويضيف الدكتور خليل فاضل: «فى الفترة التى قضيتها فى المعتقل خلال الثمانينيات شاهدت أطفالا يزفون إلى الكبار فى السجون تحت سمع وبصر العساكر». كلام الدكتور فاضل ربما تؤكده الشكاوى التى تلقاها خط نجدة الطفل فى الفترة من منتصف 2005 وحتى منتصف 2008، وأوضحت أن عدد حالات التحرش والاستغلال الجنسى بلغ 564 حالة، وتصدرت محافظة القاهرة قمة تلك البلاغات بنسبة 37.25%، وجاءت الجيزة فى المرتبة الثانية، والإسكندرية فى المرتبة الثالثة، بينما بلغت نسبة اغتصاب الذكور 58% مقابل 42% للإناث من هذه الحالات. ورغم تلك الأرقام التى تؤكد ارتفاع نسب اغتصاب الذكور مقارنة بالإناث، تبقى حوادث اغتصاب الذكور مسكوتاً عنها، وتفسر الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسى بجامعة الزقازيق، ذلك قائلة: «الرجل لا يفقد غشاء البكارة.. وذلك كل ما يهم المجتمع ويحرص على صيانته»، وتؤكد أن الجنس الخاص بالذكور من التابوهات التى يحرص المجتمع على عدم الخوض بها. وتوضح أن الاغتصاب يضر بالذكر أكثر من الأنثى، لأن الاغتصاب يكون ضد طبيعة الذكر النفسية الذى يكون فاعلا فيتحول إلى مفعول به بينما فى حالة الأنثى تمارس العلاقة الطبيعية التى تمارسها خلال الزواج، وإن كان الأمر ضد رغبتها وبطريقة عنيفة، مشيرة إلى تحول كثير من المغتصبين إلى شواذ. وتتابع الدكتورة هدى: «اغتصاب الذكور يصدم المجتمع أكثر من اغتصاب الإناث، وينهى دور المغتصب كذكر إلى الأبد بعكس الأنثى التى يمكن أن تكمل حياتها، وقد يتسبب صمت المجتمع فى أن يفقد العديد ممن تعرضوا للاغتصاب شعورهم بالهوية الجنسية». وأشارت إلى أن المجتمع يتعامل مع تلك الحالات بشكل متدنٍ ومنحط فى حين أن سيادة ثقافة الانكشاف والمصارحة يمكن أن تنقذ الأرواح من الانتهاك بعد تعرض الأجساد لها حتى لا يشعر الشخص طوال الوقت بأنه منتهك.