كانت مباراة تاريخية.. وكانت تجربة شخصية رائعة.. فربما كنت من بين حفنة قليلة جداً من الشعب المصرى لم تشاهد مواجهة مصر والجزائر.. قبل صافرة البداية بدقائق، وجدت جسدى «يرتعش».. أعصابى فقدت أعصابها.. لن أتحمل هذه المباراة.. قفزت إلى ذهنى فكرة جميلة.. غادرت الجريدة وركبت «أقدامى» وقررت التجول فى الشوارع.. لن أعرف النتيجة إلا بعد صافرة النهاية.. ويا رب لا تخذل 85 مليون مصرى فى هذه الليلة العصيبة! كانت القاهرة جميلة، كعادتها، فى المساء.. ولكنها بلا روح.. روح مصر كانت تشاهد المباراة.. أيقنت ساعتها أن مصر منورة بناسها وأهلها.. لا أحد هنا.. شارع قصر العينى كان موحشاً، وهو الذى يكتظ بالسيارات والمارة ليل نهار.. ووسط القاهرة بدا وكأنه حبس أنفاسه انتظاراً لزئير مفاجئ على إيقاع هدف مصرى.. مشيت كثيراً لأجد رفاقاً لى.. لم أكترث بتسجيل رحلة «الهروب»، لأنه لم يخطر ببالى كتابتها لكم.. ولكن رجلاً واحداً جعلها رحلة مواجهة الحقيقة! كان الرجل يجلس أمام محطة مترو التحرير.. أمسك بسيجارة وراح يتأمل القاهرة وهو ينفث الدخان فى اتجاه مبنى مجمع التحرير.. اقتربت منه وألقيت عليه السلام.. قهقه ضاحكاً وقال: «إيه يا باشا مالكش فى الكورة ولا إيه؟!».. أجبته: «بالعكس.. انفعالى الجامد هوّ اللى مشحططنى فى الشوارع».. ثم سألته «.. وإنت؟».. فأجاب: «أنا ليه وماليش فى الكورة.. بشجع منتخب مصر بس.. لا أهلى ولا زمالك.. بس ليه فى البلد أكتر.. أصحابى اتفقوا يتفرجوا على قهوة فى المنيل، نزلت من البيت علشان ألحق كرسى وشيشة، وبعدين لقيت نفسى عايز أقعد مع نفسى.. إحنا يا باشا هنكسب الماتش ده يعنى هنكسبه.. ربنا مش ممكن يزعل الناس دى كلها.. بس المشكلة إنه طلع أو نزل ماتش كورة.. هنكسبه.. لكننا خسرانين حاجات كتيرة قوى.. والناس اللى هتنزل تحتفل بعد شوية بيفكرونى بالسيول.. تيار جامد قوى قوى.. بس مدمر لو ما عرفتش تحطه فى الطريق الصحيح»! «إيه يا عم انت قلبتها فلسفة ليه؟!».. هكذا قلت له، فأجاب: «لا فلسفة ولا بتاع.. مش انت بتاع الصحافة.. تعالى أقعد جنبى وجاوب على سؤال واحد»!! اسمه «حامد.ع» يعمل فى أرشيف إحدى الوزارات المهمة.. موقعه يتيح له معلومات خطيرة رغم بساطة درجته الوظيفية.. يسمونه فى الهيئة «سحارة الأسرار».. هو يرى نفسه شقياً بالمعرفة.. لذا بادرنى بأسى «أنا قرأت لك عبارة فى إحدى مقالاتك تنطبق علىّ تماماً: الجهل نعمة.. والمعرفة عذاب ومعاناة».. وأردف «أنا أعرف أكثر من اللازم.. لذلك أعانى وأتمزق كل دقيقة».. ثم نظر إلىّ بذكاء فطرى «إسمع.. إوعى تكون فاكر إن قعدتنا دى هتديلك معلومة واحدة.. أنا راجل بخاف على عيالى.. وكمان ضميرى المهنى صاحى.. مش ممكن أبداً أخرّج معلومات من اللى تحت إيدى»! ضحكت وقلت له «لا أريد شيئاً منك.. بس خلى بالك إنت قلت إن لديك سؤال مهم.. هاته».. قال بصوت حاد «وأنا جاى فى طريقى سألت نفسى ليه بيكسب حسن شحاتة ولاعبوه بالروح والحماس؟!.. لم أجد غير إجابة واحدة لأنه حاضنهم كأسرة واحدة.. مؤمن بيهم.. أب يشعر بالحزن والفرحة داخل كل لاعب.. لديه مبادئ وقيم لا يفرط فيها.. المساواة.. العدل.. تحفيز القدرات.. تحديد الأهداف.. لا بطانة.. لا حاشية.. ولا محاباة.. حتى لو خسر جولة.. بيكسب المعركة.. حسن شحاتة يا باشا عمل دولة صغيرة مالهاش علاقة بمصر.. مواطنوها مصريون.. نعم.. ولكن الإدارة والقيادة غير مصرية.. حاجة كده اختراع من الراجل ده.. خليط من أصالة المصرى.. وأخلاق كل الأديان السماوية.. وقيم الدول المتحضرة»!! اخترق كلام الرجل عقلى، ونفذ إلى قلبى.. كان صادقاً إلى حد الوجع.. فقلت له: «ولكنك طرحت السؤال، وأجبت عليه».. فرد ضاحكاً: «لا يا باشا.. السؤال جاى.. هل تعرف لماذا تخسر مصر فى كل شىء إلا الكورة؟!».. ساد الصمت للحظات.. وقبل أن أغرق فى السؤال.. قال بحسرة «لأننا فريق لا يجد من يلتف حوله.. ليس لأننا فاشلون.. وإنما لأن مبادئ وقيم حسن شحاتة موجودة فى الكورة فقط»!! لم يكد الرجل يكمل كلماته حتى اهتز ميدان التحرير على زئير جماهير المقاهى المحيطة.. قال حامد «حسن شحاتة جاب جون.. يا باشا».. ثم انصرف..! [email protected]