من المبادئ الأولية فى البحث الجنائى أن تتجه أنظار من يبحث عن الفاعل فى جريمة لا يعرف الفاعل فيها إلى صاحب المصلحة المستفيد من وقوعها، وأحيانا يكون الفاعل رغم معرفته والقبض عليه، ليس هو الفاعل الحقيقى للجريمة بل أداة من أدواتها مثل السلاح المستعمل تماماً، وأن هناك صاحب مصلحة حركه ورسم له الطريقة التى يرتكب بها الجريمة وأمده بكل ما يلزم لارتكابها، لأنه لا توجد جريمة بلا مصلحة يجنيها المجرم من وراء ارتكابها، ونجد ذلك نادراً مثل إسناد الاتهام إلى مختل عقلياً وهو ما تلجأ إليه الشرطة حين يعييها البحث عن مرتكب الجريمة فتسند ارتكابها إلى إنسان مختل عقلياً لا يدرك حتى مجرد الدفاع عن نفسه حتى تغلق الباب تماماً أمام البحث عن أى ظن بوجود آخرين خلفه يحركونه وعندما تقع جريمة كبيرة مثل التى وقعت فى نجع حمادى بصعيد مصر باغتيال ستة رجال أبرياء أثناء خروجهم سعداء بعد أداء صلاة العيد، فإن كم الحزن والغضب الذى يمكن أن يترتب على هذه الجريمة فى نفوس الأخوة المسيحيين لابد أن يكون هائلاً كافياً لإحراق كل ما حولهم وقد يكون ما حولهم فى ذات براءة من تم اغتيالهم ولكن الغضب الأعمى لا يدع مجالا للتفكير فى شخص من يتم الانتقام منه أو وسيلة الانتقام لأن النفس الغاضبة نفس موتورة عمياء لا تفكر ولا تتدبر وكل ما تريده أن تطفئ نار الحقد المشتعلة داخلها، فتدمر وتقتل وتفسد كل ما يمكن أن يقع تحت بصرها. هذه الجريمة البشعة التى ترتب عليها اشتعال نفوس الأخوة المسيحيين بالحزن والغضب والمرارة والإحساس بعدم الأمان واستدعاء بعض التصرفات المشابهة من الماضى السحيق والتى كادت مرارتها تنمحى بفعل الزمن، هذه الجريمة فى الظروف التى أحاطت بها لابد أن يكون مدبرها يهدف من ورائها الشىء الكثير فهو يعلم تمام العلم أن عدد الأقباط فى صعيد مصر كبير وأنه لا قدر الله واشتعلت نار الفتنة فى هذا الجزء من الوطن فإنها ممكن أن تكون فى ضراوة ما يحدث فى بعض البلاد التى بها فئات متنازعة مثلما حدث فى لبنان أو الصومال وتكون النتيجة خراباً شاملاً وقتل المئات فى وطن لم يعرف طوال تاريخه هذه الفتنة فى أشد عصور الظلام، بل إن عصور القهر والاستعمار كانت من عوامل وحدة الأمة وتكاتفها حيث كان المسلم يحتمى بجاره المسيحى الذى يحميه ويعرض نفسه وأسرته للهلاك دونه لأنه يعلم أنه يدافع عن وطنهما المشترك ويحارب عدواً واحداً، وكان مشهد الكنائس والمساجد المهدمة بقنابل العدوان الإسرائيلى فى حربى 1956و1967 شاهداً على أن العدو لا يعرف دينا ولا ملة، ومن يذكر واقعة احتماء الفدائيين المسلمين بكنيسة بيت لحم وحماية الرهبان لهم وإصرارهم على عدم تسليمهم والتعرض معهم للحصار والجوع والموت يدرك مدى الوحدة التى يشعر بها أبناء هذا الوطن العربى كله. لم تعرف مصر بالذات هذا الشعور العدائى بين مواطنيها إلا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة التى أسميناها اتفاقية السلام، وهى إن كان لها نصيب من هذه التسمية فإنه يكون من جانب إسرائيل، إسرائيل هى التى استفادت من هذه الاتفاقية استفادة كبيرة، فهى بلا شك قد أخرجت مصر تماماً من أى مواجهة عسكرية مع إسرائيل، والحقيقة التى يعرفها الجميع وتدركها إسرائيل بالذات أنه لا سلام دون مصر ولا حرب أيضاً دون مصر، ولذلك فإن القول بإمكان تحرير أى جزء من العالم العربى بعد توقيع هذه الاتفاقية قد أصبح أمرا شاقاً جدا وهو ما نشاهده فى احتلال الجولان والضفة الغربية.. لم يشذ من ذلك سوى لبنان وغزة لضراوة المقاومة التى تبذل إسرائيل وأمريكا جهدهما للخلاص منها ونساعدهما نحن للأسف على ذلك. إسرائيل عندما وقعت على اتفاقية كامب ديفيد مع مصر أخرجتها بذلك من الصراع، معها شعرت براحة شديدة من عناء الحرب الشاملة التى لا تستطيع أن تتحمل عبئها مدة طويلة وقد طمأنها الرئيس السادات عندما قال إن حرب سنة 1973 هى آخر الحروب وهذا بالضبط ما تريده إسرائيل لأنها تعلم أنها كفيلة بالعالم العربى كله بعد ذلك خاصة أن أمريكا تجاهر دائماً بأنها مسؤولة عن سلامة إسرائيل وأنها حريصة على أن يكون تسليحها أقوى من تسليح العالم العربى مجتمعاً والقادة العرب يسمعون ذلك ويعونه جيداً ورغم ذلك يطلقون على أمريكا راعى السلام ويلتجئون إليها لكى تحل لهم مشكلتهم مع إسرائيل، تحقق لإسرائيل السلام الذى تريده بعد اتفاقية كامب ديفيد ما عدا مناوشات مع حزب الله وحماس تخرج منها ببعض الخسائر المادية والمعنوية ولكن بلا شك هذا لا يقارن بما يمكن أن يحدث لها لو أن حربا شاملة نشبت وكانت تشارك فيها مصر، إلا أنها لم تحقق هدفا كبيراً كانت تنتظره وتعلق عليه آمالاً كباراً فى مستقبلها الاقتصادى والسياسى فى المنطقة وهو التطبيع الكامل مع مصر، وأهم عنصر من عناصر التطبيع هو قبول الشعب المصرى للتعامل مع الشعب الإسرائيلى فى جميع المجالات، والناظر لأمر هذا التطبيع يجد أن من يقبله ويقوم به هم المسؤولون الحكوميون فقط، أ ما باقى قطاعات الشعب المصرى فإنها ترفضه تماماً وليس لديها أى استعداد لقبوله مهما كانت المغريات التى تقدمها إسرائيل وأمريكا فى هذا الشأن، بل إن كل من يقوم بعمل فى صالح هذا التطبيع من المصريين يتعرض للانتقاد الشديد من الشعب المصرى وقد شاهدنا ما حدث مع شيخ الأزهر الذى صافح رئيس الكيان الصهيونى وكيف كان محل استهجان من كل فئات الشعب فى مصر ولم يشفع له مركزه الدينى فى هذا الأمر، التطبيع إذن أمر مرفوض من كل الشعب المصرى ومن يسر عكس هذا الاتجاه يعرض نفسه للاحتقار والكراهية والمقاطعة أحياناً والعقاب أحياناً أخرى من بعض المؤسسات المهمة والمؤثرة فى تكوين الرأى العام المصرى، وقد مضى زمن طويل منذ توقيع هذه الاتفاقية حتى الآن ولم يحدث تقدم ملموس فى مصلحة التطبيع، الأمر الذى بالتأكيد أثار حفيظة إسرائيل وجعلها تفكر فى أمور أخرى خارج نطاق الإغراء، وأمور تتفق فى طبيعة إسرائيل العدوانية وأهدافها الشريرة فى تنفيذ سياستها فى التغلغل فى الشعب المصرى وهى سياسة التفرقة بين أبنائه، وأسهل وسيلة فى ذلك هى اللعب بالمشاعر الدينية بين المسيحيين والمسلمين وهى مشاعر تعرف مدى حساسيتها وكيفية إثارتها ومدى خطورتها على وحدة الشعب المصرى فى حالة اشتعالها، عدد المسيحيين فى مصر على أقل تقدير ثمانية ملايين يتركز معظمهم فى صعيد مصر ولو تخيلنا لا قدر الله أن مثل هذا العدد رفع السلاح فى وجه الغالبية المسلمة فماذا يمكن أن تكون النتيجة؟ أول ما يمكن أن يحدث هو القول باستحالة العيش بين الطرفين وبالتالى تقسيم الوطن إلى جزأين، شمال وجنوب كما يحدث الآن فى السودان، ولن يقتصر الأمر على هذا الحد لو حدث لأن نزاعات الحدود لا تنتهى حتى بين المسلمين أنفسهم فكيف وقد استحكم الخلاف وانقسمت الأمة بين شطرين وأصبح لكل شطر سيطرته الكاملة على جزء من الوطن وسيادة يحرص على عدم المساس بها وسيقول المسؤولون فيه إن أى مسيحى يعبر الحدود بدون إذن سنكسر قدمه، ويستمر النزاع على المياه والطرق وتصبح هناك حدود وجمارك بين الصعيد ومصر السفلى، تُرى من المستفيد من هذا الوضع لو حدث؟ أليست إسرائيل التى تتمنى أن تجد كل بلاد العالم العربى قطعاً متفرقة يتنازع بعضها البعض، ويستنزف بعضها بعضها ويسهل بذلك السيطرة عليها وإغراؤها بالتطبيع معها وإبرام المعاهدات مع بعضها لحماية بعضها الآخر كما تفعل أمريكا الآن، ألم تستطع إسرائيل أن تجعل لاتفاقية كامب ديفيد مع مصر أولوية تفوق اتفاقها مع أشقائها العرب بحيث لا تستطيع مصر التحرك فى حالة وجود عدوان إسرائيلى على بعض الدول العربية بل إنها تساعد إسرائيل على ذلك إن لم يكن بالإمداد بالسلاح فإنه يكون بالمساعى الدبلوماسية حيناً وبالحصار الاقتصادى والسياسى واللوم والتقريع وتلفيق التهم أحياناً. كانت هذه الأفكار مجرد هاجس يراودنى ويخطر على بالى ويلح على إلى أن قرأت مقال الدكتور حسن نافعة فى «المصرى اليوم» عن إسرائيل والمسألة الطائفية فى مصر يوم الخميس الماضى والذى تناول فيه الدراسة التى قامت بها إسرائيل عن الاستراتيجية الصهيونية لتفتيت العالم العربى فوجدت أن ذات الأفكار التى تضمنتها الدراسة هى ما نشعر نحن به ونعيشه فى مصر والعالم العربى منذ اتفاقية مصر مع إسرائيل وأن ازدياد حالة الاحتقان فى مصر بين المصريين منذ هذا التاريخ ليس له إلا تفسير واحد وهو ما ذكرته هذه الوثيقة وهو ليس تبنياً لنظرية المؤامرة أو تحميل إسرائيل والغرب مسؤولية ما يجرى فى المنطقة وإن كانت نظرية المؤامرة فى هذا الموضوع صحيحة تماماً لأنه لا يوجد فى هذه البلاد مجال للصدفة كما يحلو لنا أحياناً أن نشيع وكل ما يمكن قوله فى هذا الأمر أن ضعف الحكومات العربية والمصرية بشكل خاص قد أعطى إسرائيل الفرصة الكبيرة لتنفيذ هذا المخطط الاستعمارى الخطير الذى يضعف العرب ويقوى إسرائيل ويساعدها على النمو والتجبر وإقناع أمريكا بأنها يجب أن تظل الشرطى القوى فى المنطقة القادر على إخضاع العالم العربى بثرواته الطبيعية وأسواقه المفتوحة لها تنعم بها وحدها دون شريك إلا من ترضى عنه أمريكا التى تساعد هذه النظم على البقاء والاستمرار حتى آخر قطرة من دماء هذه الشعوب. [email protected]