شيخ الأزهر: ما يحدث في غزة جرائم وحشية لم نتخيل وقوعها حتى في القرون الوسطى    مدبولي: مراجعة صندوق النقد ستتم خلال أيام    باكستان تعطي الضوء الأخضر لجيشها للرد على الغارات الهندية    روسيا وأوكرانيا تتبادلان هجمات جوية على العاصمتين    ترامب يرفض خفض الرسوم الجمركية على الصين كوسيلة للضغط من أجل المفاوضات    انطلاق مباراة بي إس جي ضد أرسنال في دوري أبطال أوروبا    صاروخية رويز تمنح باريس هدف التقدم أمام آرسنال    السيطرة على حريق بمحل دواجن في مدينة بنها    بإطلالة طبيعية.. مي كساب تخطف الأنظار في أحدث ظهور لها    غادة إبراهيم تشن هجومًا لاذعًا على بوسي شلبي بعد نفي ابنائه استمرار زواجه منها    تشغيل وحدة علاجية لخدمة مرضى الثلاسيميا والهيموفيليا بمستشفى السنبلاوين العام بالدقهلية (صور)    بمشاركة حمدي فتحي.. الوكرة يسقط أمام أم صلال بكأس أمير قطر    غموض موقف مدافع مانشستر يونايتد من لقاء بلباو    مدير هيئة نظافة القاهرة: 20 ألف طن مخلفات تخرج من العاصمة يوميا    حريق هائل في كسارة بلاستيك بالغربية - صور    الآلاف يشيعون جثمان الطفل ضحية الطلق الناري من زملائه في كفر الشيخ    البغدادي تستعرض مع وفد جمهورية تشيلي استراتيجية تمكين المرأة    وزير الخارجية الألماني الجديد: على كل من في موسكو أن يعمل حسابا لنا    إيهاب فهمي: محمد سامي موهبة كبيرة.. ولا يعامل مي عمر معاملة خاصة    بطل قصة حياتي.. روجينا تتغزل في زوجها أشرف زكي بحفل زفاف رنا رئيس    مهرجان أسوان لأفلام المرأة يسدل الستار عن دورته التاسعة بإعلان الجوائز    أمين الفتوى: مفهوم الحجاب يشمل الرجل وليس مقصورًا على المرأة فقط    محافظ المنيا يوجه بتسريع وتيرة العمل في ملف التصالح وتقنين أراضي الدولة    أفضل من القهوة والشاي- 4 مشروبات صباحية تنقص الوزن    رئيس جامعة مطروح يشيد بالمعرض التطبيقي لطالبات كلية التربية للطفولة المبكرة    البابا تواضروس: نحن مواطنون مصريون نعيش مع إخوتنا المسلمين فى وطن واحد    الآلاف يشيعون جثمان الطفل "أدهم" ضحية أصدقائه في كفر الشيخ - فيديو وصور    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    أوس أوس يطلب من جمهوره الدعاء لوالدته: «ادعوا لها تقوم بالسلامة»    «منهم الحمل والأسد».. 4 أبراج تتحدث قبل أن تفكر وتندم    وزير التموين يكشف تفاصيل عن تطبيق رادار الأسعار    أبطال «نجوم الساحل» يكشفون كواليس العمل مع منى الشاذلي..غدا    «الزيت يكفي 3.7 شهر».. وزير التموين: الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الأساسية آمن    مبيعات أجنبية تهبط بمؤشرات البورصة بختام جلسة اليوم.. فما الأسباب؟    عمر طلعت مصطفى: ننسق مع وزارة الشباب والرياضة للاستفادة من الفعاليات الكبيرة للترويج لسياحة الجولف    جوندوجان يأمل في بداية مسيرته التدريبية كمساعد لجوارديولا    جامعة كفر الشيخ تشارك في منتدى «اسمع واتكلم» بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف    عدوان الاحتلال الإسرائيلي على طولكرم ومخيميها يدخل يومه 101    محافظ قنا يشارك في احتفالية مستقبل وطن بعيد العمال ويشيد بدورهم في مسيرة التنمية    خلافات مالية تشعل مشاجرة بين مجموعة من الأشخاص بالوراق    رئيس "أزهرية الإسماعيلية" يشهد امتحانات النقل الإعدادى والابتدائى    وزير البترول: التوسع الخارجي لشركة "صان مصر"على رأس الأولويات خلال الفترة المقبلة    هل يجوز أن أصلي الفريضة خلف شخص يصلي السنة؟.. المفتي السابق يوضح    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    ب12 هاتفًا.. عصابة تخترق حساب سيدة من ذوي الاحتياجات وتنهب أموالها    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    حزنا على زواج عمتها.. طالبة تنهي حياتها شنقا في قنا    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    آخر تطورات مفاوضات الأهلي مع ربيعة حول التجديد    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    بدء اجتماع "محلية النواب" لمناقشة عدد من طلبات الإحاطة    «مستقبل التربية واعداد المعلم» في مؤتمر بجامعة جنوب الوادي    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    أحمد سليمان: ما حدث في أزمة القمة أساء لسمعة الكرة المصرية    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجتمع مشوه وصحافة غير مهنية
نشر في المصري اليوم يوم 07 - 12 - 2008

لم تكن الجريمة التى وقعت فى مدينة الشيخ زايد، التى راحت ضحيتها فتاتان فى عمر الزهور، جريمة من النوع المعتاد، ومن ثم كان من الطبيعى أن توليها وسائل الإعلام اهتمامًا خاصًا.
غير أننى لم أستطع فى البداية أن أتبين ما إذا كان الاهتمام الزائد بهذه الجريمة بالذات يعود إلى أسباب وعوامل ذاتية، تتعلق بشخصية إحدى الضحيتين، وهى ابنة مطربة مغربية معروفة اسمها ليلى غفران، أم إلى أسباب موضوعية تتعلق بطبيعة ونوعية جريمة تمس قضايا عامة كثيرة تتعلق بطبيعة التحولات التى طرأت على سلوك المجتمع المصرى نتيجة وفرة المال النفطى وما صاحبه من هجرة إلى دول الخليج.
فالجريمة، التى بدت غامضة الدوافع حينئذ، وقعت فى فيلا قيل إنها مملوكة لفتاة عمرها 23 عاما، وتعيش فيها بمفردها لأن والديها يعملان ويقيمان معا فى السعودية، وإحدى ضحيتيها ابنة فنانة معروفة كانت تقضى ليلتها عند صديقتها وربما كانت هى المستهدفة الحقيقية.
ولأنه لم يسبق لى أن سمعت من قبل عن الفنانة ولم تكن لدى أدنى معرفة بقيمتها أو بأهميتها الفنية أو بطبيعة سلوكها الاجتماعى والخلقى فلم أجد فى القصة ما يستحق اهتمامًا خاصًا من ناحيتى سوى جانبها الاجتماعى الذى يخرج بعض الشىء عن المألوف فى تقاليد الأسرة المصرية. لذا كان من السهل أن تستقر فى ذهنى صورة نمطية راحت الصحافة المصرية ترسمها للجريمة على النحو التالى:
1- والدان لم يعد يشغلهما سوى جمع المال، وتفرغا لجمعه فى السعودية تاركين ابنتهما الوحيدة تعيش بمفردها فى فيلا ضخمة اشتراها لها بالقرب من الجامعة الخاصة التى التحقت بها، متصورين أنهما بذلك أديا واجبيهما كوالدين على أكمل وجه، ووفرا لابنتيهما حياة كريمة لم تكن لتحلم بها لو أنها كانت قد عاشت فى كنفهما فى مصر برواتبها الضئيلة.
وانطلاقا من هذه الفرضية راحت الصحف المصرية تتسابق حول رقم المبلغ الذى كان يصل إلى الفتاة المدللة شهريا من والديها والذى تراوح، حسب «المزاد» المقام بين صحف «القطاع الخاص» وصحف «القطاع العام»، بين خمسة آلاف وأحد عشر ألف جنيه شهريا!.
2- فتاة فى سن المراهقة تجد نفسها تعيش بمفردها وسط هذه البحبوحة من رغد العيش، فماذا يتوقع منها أن تفعل؟ من المنطقى أن تميل إلى مصاحبة أصدقاء السوء لتحصل على ما لا تستطيع أن تحصل عليه بمفردها من متعة تتيحها لها إمكانات مادية غير محدودة.
وهنا وجدت الصحافة فى علاقة ابنة رجل مهاجر إلى بلاد النفط بابنة فنانة مغربية جذبتها أضواء الشهرة إلى القاهرة، دليلا لا يقبل الشك أو التشكيك فى نية الفجور!.
هكذا تحولت فيلا الجريمة، كما صورتها الصحافة المصرية، إلى مرتع لشباب طائش لم يعد يشغله هم عام أو قضية، وراح يملأ أوقات فراغه بسهرات ماجنة تدور فيها كؤوس الخمر وتتبادل فيها لفائف البانجو مع شرائح الكوكايين، وتحفل فيها الموائد بكل ما يذهب العقل من شراب أو مخدرات، وبكل ما يشبع البطون مما لذ وطاب من أفخر الطعام، وبهذا تتهيأ الأجساد التى منحت عقولها وقلوبها إجازة مفتوحة لإطلاق غرائزها الحيوانية فى حفلات جنس جماعى.
وانطلاقا من هذه الفرضية راحت الصحف المصرية تتسابق حول تسمية أنواع الخمور والمخدرات والأطعمة التى كانت تقدم فى سهرات هبة ونادين الماجنة!.
وترتيبًا على هذه الافتراضات، التى تبدو فى ظاهرها منطقية، توصل خبراء الحوادث فى الصحف المصرية إلى أن الجريمة التى وقعت فى مدينة الشيخ زايد لا يمكن إلا أن تكون جريمة عاطفية، ارتكبت بدوافع الغيرة أو الانتقام فى لحظة إفاقة من نشوة محرمة أو نتيجة هجوم مباغت من عشيق ولهان غيران!، وإلا فكيف يمكن تفسير هذه الطعنات الوحشية المتكررة، وهذا الجسد المفصول عن الرأس.
كانت تلك هى الصورة التى غرستها وسائل الإعلام المصرية فى وجدانى، وربما فى وجدان الملايين، وكانت حاضرة فى ذهنى حين كنت أتهيأ لدخول منزلى عائدا إلى بيتى مساء يوم الثلاثاء الماضى عقب تلبيتى دعوة عشاء نظمه المجلس المصرى للشؤون الخارجية فى النادى الدبلوماسى بمناسبة انعقاد مؤتمره السنوى.
ولأننى كنت أستعد للسفر فى صباح اليوم التالى إلى باريس للمشاركة فى ندوة تنظمها اليونسكو عن «حوار الثقافات على ضفتى المتوسط»، فقد كان علىَّ أن أهمَّ على الفور بإعداد حقيبتى، غير أننى وجدت زوجتى تتابع برنامجًا تليفزيونيًا وعلامات التأثر بادية بوضوح على وجهها، وراحت تدعونى بإلحاح لمتابعة البرنامج الذى تشاهده.
هكذا أتيح لى أن أتابع ما تبقى من اللقاء الذى استضاف فيه الإعلامى الموهوب محمود سعد والد نادين، ضحية وصاحبة فيلا الشيخ زايد، وأن أكتشف أن الصورة التى رسمتها الصحف المصرية كانت كلها وهمية ومن صنع الخيال، وبعيدة كل البعد عن الحقيقة كما ارتكبها ورواها فاعل الجريمة الحقيقى الذى تم القبض عليه بالفعل!.
الصورة التى رسمتها الصحف المصرية فى أذهاننا عن الجريمة كانت صورة مبنية على افتراضات مستوحاة من شواهد عامة، وليست صورة مبنية على معلومات حقيقية، سواء كانت متاحة تم التأكد منها أو ناقصة تقع عليها مهمة البحث عنها واستكمالها وتدقيقها.
وتلك خطيئة مهنية كبرى وقعت فيها الصحافة المصرية، وتسببت فى تشويه سمعة أسرة وسمعة ضحايا سقطوا بلا ذنب أو جريرة، فأضافت إلى الحزن آلاما بغير حدود. وهكذا أصبحت الجريمة جريمتين: جريمة شاب قتل وجريمة إعلام جرح.. وكلاهما، الشاب القاتل والصحافة الآثمة، إفراز لمجتمع يبدو مشوها إلى درجة مرعبة.
غير أن جريمة الصحافة تبدو لى أكبر بكثير من جريمة القاتل. فجريمة القاتل تبدو لى مفهومة الدوافع، رغم أنها ليست مبررة أو حتمية، أما جريمة الصحافة فليست مفهومة، ناهيك عن أن تكون مبررة، وتفصح عن تسيب شرير.
فالقاتل الحقيقى شاب فقير مطحون لا تزيد سنه كثيرا على سن ضحيتيه اللتين أوقعهما حظهما العاثر فى طريقه، يعول أسرة كبيرة ويريد أن يتزوج. ولأنه وجد، بتفكيره المحدود وربما بميوله الإجرامية أيضا، أن حلمه غير قابل للتحقيق بالطرق المشروعة، قرر أن يسرق أحد البيوت الكائنة بحى راق كان يتردد عليه ويعمل فيه حدادا من وقت لآخر.
وهكذا ساقته الأقدار إلى فيلا لا يعرف من بداخلها ولا ماذا يفعل أو يملك أصحابها، لكنه كان على ثقة من أنها لابد وأن تكون عامرة بما يبحث عنه!. ولأنه ليس سارقا محترفا ولا مجرما محترفا، قرر أن يحتاط باقتناء ساطور كبير قيل إن طوله بلغ 75 سنتيمترا!. هكذا، وببساطة شديدة لم يتوقعها أحد، ساق حظ عاثر وقدر محتوم فتاتين بريئتين فى طريق شاب يحمل ساطورا توجه بالصدفة البحتة إلى بيتهما ليسرقه، وكان ما كان.
أما الطرف الآخر، وهو الصحافة المصرية التى لا نكاد نستثنى منها أحدا، فلا يمكن فهم سلوكها الشائن أو دوافعها غير النبيلة. فمن الواضح أنها نسجت قصة من خيال بنته على افتراضات واستنتاجات، وليس على معلومات صحيحة أو مدققة، بل لم تتردد فى اختلاق وفبركة معلومات وأرقام مزورة لتثبت صحة افتراضات أو استنتاجات لا أساس لها، دون أن تبذل أى جهد لتحرى حقيقة ما حدث، بل دون أن يرتجف لها جفن حول ما قد تلحقه معلوماتها المختلقة أو المفبركة أو المزورة من أذى بأناس أبرياء.
فلم تكن هذه الصحافة مستعدة لأن تصدق أن فتاة شابة مستقيمة ومتدينة يمكن أن تسكن بمفردها منزلا كبيرا، لأن أى فتاة ثرية تسكن بمفردها فى هذا الزمن لابد أن تكون، فى نظرها، ابتداء وبالضرورة منحرفة وسيئة السلوك ما لم يثبت العكس. وأولاد الفنانين لابد وأن يكونوا، فى نظرها، ابتداء وبالضرورة، منحرفين أيضا، لأن الفن هو بالنسبة لها أقرب إلى الفعل الإباحى منه إلى العمل الإبداعى، ما لم يثبت العكس!.
والآباء الذين يقبلون أن يتركوا ابنتهم الوحيدة تعيش بمفردها فى منزل كبير بلا رقيب أو حسيب لابد وأن يكونوا، ابتداء وبالضرورة، آثمين ولا عذر لهم فى مثل هذا السلوك الاجتماعى المستهجن فى مجتمع هو بطبيعته محافظ ومتزمت، ما لم يثبت العكس!.
والسؤال: من المجرم الحقيقى فى هذه الحالة؟ هل هو ذلك الشاب البائس الجاهل الفقير الذى يعول أسرة كبيرة ويريد أن يسرق ليتزوج، أم هى المؤسسة الصحفية التى يفترض أن تكون أداة ووسيلة فعالة للتنوير وللرقابة معا؟ أعتقد أن الإجابة واضحة تماما ولا تحتاج لتفسير.
فمتى تصبح صحافتنا مهنية؟ أليس من واجب كل صحيفة ساهمت فى تشويه سمعة أسرة واغتيال براءة شباب، أن تكفر عن ذنبها، وأن تستخلص مما حدث دروسا تعينها على تصحيح أوضاعها. هذا الحادث كشف لنا ليس فقط عن صحافة غير مهنية، ولكن أيضا عن مجتمع قاس وبه الكثير من العقد النفسية. وأود بالنيابة عنه أن أعتذر لأسرتى الضحيتين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.