للفقيه الإسلامى الكبير الدكتور يوسف القرضاوى كتاب مهم يحمل عنوان «فى فقه الأولويات» يعالج، من وجهة النظر الشرعية طبعا، «قضية اختلال النسب واضطراب الموازين فى تقدير الأمور والأفكار والأعمال وتقديم بعضها على بعض، وأيها يجب أن يُقدِّم وأيها يجب أن يُؤخر، وأيها ترتيبه الأول وأيها ترتيبه السبعون، فى سلم الأوامر الإلهية والتوصيات النبوية». ولأن الخلل فى ميزان الأولويات عند المسلمين فى عصرنا يعد أحد أسباب تراجعهم عن ركب الحضارة الإنسانية، فقد كان من الطبيعى أن يتحول إلى قضية تؤرق شيخنا الجليل وتدفعه إلى الاجتهاد فى تأصيل فقه الأولويات فى الإسلام حتى لا ينشغل الناس بتوافه الأمور على حساب عظائمها. وما يصدق على الأمور الدينية، خاصة فى هذه المسألة، يصدق أيضا، وربما بدرجة أكبر، على الأمور الدنيوية. لذا أعتقد أن النخب الفكرية والسياسية الداعية للتغيير، خاصة فى مصر، فى حاجة ماسة إلى دراسة «فقه الأولويات»، من وجهة النظر السياسية طبعا، واستيعاب أصوله ومقوماته، إذا ما أرادت أن تحسن من أدائها وتتجنب الدوران فى ذات الحلقة المفرغة. وسوف نحاول فى مقال اليوم إلقاء نظرة نقدية على نشاط الجمعية الوطنية للتغيير، من هذا المنظور، على أمل أن يسهم ذلك فى تصحيح أخطاء المرحلة السابقة وتعديل مسيرتها بما يمكنها من تحقيق أهدافها. ولكى تكون النظرة النقدية دقيقة وموضوعية ومجردة تماما عن أى أهواء شخصية، علينا أن نتعامل مع «الجمعية الوطنية للتغيير» كما هى، وليس كما ينبغى أن تكون، وأن نذكّر أنفسنا بأنها ليست حزبا او حركة سياسية جديدة أنشأها الدكتور البرادعى ولها هياكل تنظيمية لصنع القرار وممارسة النشاط، وإنما هى مجرد «إطار للعمل الجماعى» يضم أحزابا رسمية، كحزبى الجبهة الديمقراطية والغد، وأحزابا تحت التأسيس، كحزبى الكرامة والوسط، وحركات سياسية واجتماعية من طبيعة خاصة، كحركتى كفاية و6 أبريل، وتنظيمات يسارية مختلفة الألوان، ومنظمات حقوقية، بالإضافة طبعا إلى «جماعة الإخوان المسلمين» ذات الثقل السياسى الكبير داخل البرلمان أو فى الشارع رغم الحظر القانونى المفروض عليها. ولأن لكل من هذه المكونات برامج وأجندات وأولويات سياسية وفكرية مختلفة، فقد كان من الطبيعى أن تبدأ الجمعية أولى خطواتها بتحديد مساحة المشترك بينها، والسعى لتطويره كلما كان ذلك ممكنا، مع العمل فى الوقت نفسه على تحييد القضايا الخلافية وتجنب إثارتها أو الخوض فيها، إلا عند الضرورة القصوى، وهو ما تمكنت من القيام به حين نجحت فى بلورة وطرح مطالبها السبعة على المواطنين للتوقيع عليها. تشكيل «جمعية وطنية للتغيير» من أحزاب وحركات وجماعات تمثل كل ألوان الطيف السياسى فى مصر، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يعد اعترافا ضمنيا بأن مهمة التغيير أكبر من قدرة أى فصيل بمفرده، وبأن مسؤوليته تقع على عاتق الجميع الذين يتعين عليهم أن يعملوا وفق شعار «إما أن ننجح معا أو نفشل معا». وتأسيسا على هذه البديهية كان من المفترض، من منظور مثالى على الأقل، قيام كل مكون بإعادة ترتيب أولوياته بما يساعد على وضع مطالب الجمعية السبعة على رأس جدول أعماله. ولأن الجمعية تمارس أنشطتها وبرامجها المختلفة، وعلى رأسها جمع التوقيعات، من خلال الأحزاب والحركات والجماعات المشكلة لها، فقد كان من الطبيعى أن يكون دورها تنسيقيا بالدرجة الأولى، وأن يقتصر على طرح ومناقشة البرامج والأنشطة ومتابعة وتقييم ما يتم تنفيذه منها. كما كان من الطبيعى أيضا أن يلجأ «المنسق العام» إلى أسلوب التوافق لحسم المداولات وتجنب اللجوء إلى التصويت قدر الإمكان تجنبا لحدوث أى انقسامات فيها. غير أن المسيرة لم تكن مع ذلك سلسة. فما ينبغى أن يكون شىء، وما يجرى عليه العمل فعلا شىء آخر، وبالتالى كان على الجمعية أن تشق طريقها وسط مجموعة كبيرة من الصعوبات، أهمها: 1- صعوبات ناجمة عن التفاوت الكبير فى طبيعة القوى المؤسسة للجمعية والمشاركة فى اجتماعات «أمانتها العامة»، سواء من حيث الأحجام أو الأوزان أو الوضع القانونى... إلخ. ولا أذيع سرا إن قلت إن البعض كان يتخوف من العمل مع أحزاب وجماعات لها تاريخ ومواقف سياسية يعتبرها غير مطمئنة، ومن ثم يعتقد أن وجودها يضر بقضية التغيير ولا يخدمها. وذهب البعض الآخر إلى حد المطالبة بأن تكون الجمعية تنظيماً جماهيرياً قائماً بذاته يتبنى مواقف قادرة على تحريك الجماهير فى اتجاه الضغط من أجل التغيير، بعيداً عن أجندة الأحزاب أو الجماعات القائمة. غير أن الاعتبارات العملية والواقعية، التى ربما كان أهمها تلك المتعلقة بظروف وملابسات النشأة والأجندة الخاصة بقيادتها، فرضت القبول بصيغة تقوم على التعايش ولملمة الصفوف والعمل وفق متطلبات الحد الأدنى المشترك. ولا جدال فى أنه كان لهذه الصيغة بعض المزايا وكثير من العيوب، وربما تفسر بعض البطء الذى اتسم به إيقاع العمل فى بعض الفترات، لكنها كانت الصيغة الوحيدة المتاحة والممكنة. 2- صعوبات ناجمة عن طموحات وأجندات شخصية وعدم قدرة بعض القيادات على التفهم الكامل لمهمة الجمعية، التى اعتقد أنها أداة للترويج للبرادعى «رئيسا» وليس للتغيير. ورغم تأكيد البرادعى نفسه أنه داعية للتغيير وليس مرشحاً رئاسياً، إلا أن وجود أنصار البرادعى داخل الجمعية وتقريبه لهم ساهم فى تعميق الشكوك ودفع بعض الطامحين للرئاسة للإعلان عن أنفسهم كمرشحين «شعبيين». ورغم التنبه لمخاطر هذا النوع من المبادرات على صورة الجمعية، وقيام الكثيرين بمحاولة إقناعهم بأن ضررها على الجميع أكثر من نفعها، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً. لذا فربما أدى الحرص على وحدة الصف، والذى رآه البعض مبالغا فيه، إلى التعايش مع وضع يراه آخرون شاذا ولا مبرر له. فإذا أضفنا إلى ذلك وجود صراعات شخصية وعقائدية بين مكونات متنافرة داخل الجمعية دفع البعض، على سبيل المثال، إلى توجيه اتهامات بسعى جماعة الإخوان المسلمين للهيمنة على الجمعية، فى وقت شديد الحساسية وشديد الخطورة، لأدركنا أن طريق الجمعية كان محفوفاً بالأشواك. 3- صعوبات ناجمة عن الأجندة الخاصة للدكتور البرادعى. فباعتباره حائزا على جائزة نوبل، ومتعاقدا مع إحدى دور النشر العالمية لنشر مذكراته الخاصة، تعين على الدكتور البرادعى أن يتواجد كثيرا بالخارج. ورغم أن أجندته كانت معروفة سلفا لقيادات الجمعية إلا أن الزخم الذى أثاره تشكيل الجمعية وما ترتب عليه من حاجة ماسة لقيادة ميدانية، لم يكن غيره يستطيع القيام بها، كاد يتسبب فى أزمة كبرى هددت وجود الجمعية نفسه. ورغم النجاح فى احتواء هذه الأزمة وتقليص خسائرها إلى أدنى حد ممكن، إلا أن بعض آثارها السلبية لا تزال محسوسة وتحتاج إلى معالجة خاصة. هذه الصعوبات، على كثرتها وتعقيداتها، لم تحل دون تمكن الجمعية من شق طريقها وفرض نفسها كرقم مهم على الساحة السياسية، بدليل قيام جمال مبارك وأنصاره بشن حملة مضادة لخلط الأوراق، غير أنه كان بوسع الجمعية أن تنجز أكثر بكثير مما تحقق. ومع ذلك فالفرصة لإحداث اختراق جديد لم تفلت بعد شريطة أن تقوم جميع الأطراف بإعادة ترتيب أولوياتها بما يخدم هدفها المشترك، ألا وهو فتح طريق التغيير بالطرق السلمية، والذى لن يتمكن أى منها من إنجازه منفردا. لذا آمل: 1- أن يكون الدكتور البرادعى قد فرغ من معظم ارتباطاته السابقة، إن لم يكن كلها، وأن يكون فى وضع يسمح له عند العودة هذه المرة بقيادة حركة التغيير ميدانياً، والبناء على ما تحقق من منجزات، وتفادى ما حدث من سلبيات. 2- أن تضاعف جميع الأطراف المشاركة فى الجمعية أنشطتها الميدانية فى حملة جمع التوقيعات، وأن تجهز جماهيرها لممارسة أقصى أنواع الضغوط الممكنة على النظام لحمله على الاستجابة لمطالب الجمعية ولضمان نزاهة الانتخابات. 3- أن تركز هذه الأطراف نشاطها فى المرحلة المقبلة على انتخابات مجلس الشعب لإدارة معركة مشتركة تحت شعار «فلنشارك معا أو فلنقاطع معا»، وأن تسعى فى الوقت نفسه لعزل القوى التى تخرج على الإجماع. 4- أن تعيد تقييم الأوضاع بعد انتخابات مجلس الشعب بحيث تعيد النظر فى تشكيل الجمعية الوطنية للتغيير على ضوء ما حدث فى انتخابات مجلس الشعب، ومن القوى التى ثبت أنها ليست مستعدة لمهادنة الفساد والاستبداد وإحباط آمال التغيير. 5- بلورة رؤية للبدائل المختلفة للمواقف التى يتعين على الجمعية أن تتبناها فى حالات الطوارئ، وفى مقدمتها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وأرجو أن يكون قد اتضح للجميع الآن بعض الأسباب التى تدفعنى للتفاؤل رغم الصعوبات وما وقع من أخطاء.