استقبالهم لشهر رمضان يختلف عن غيره من الشهور، وعن استقبال غيرهم له، فرغم مرضهم وخضوعهم للعلاج فإنهم حريصون على الاحتفال بالشهر قبيل قدومه بأيام من خلال ترتيبات خاصة بهم وحدهم يبدأونها برسم فوانيس رمضان على لوحات ورقية وتعليق الزينات على جدران مستشفى الصحة النفسية فى العباسية.. مدفع الإفطار يتصدر لوحة معلقة على خشبة المسرح الذى يبدأون عليه تدريباتهم المتواصلة على الغناء.. والغناء هنا لا يعنى الموهبة أو الصوت الجميل ولكنه يعنى الالتزام بالصوت الواحد وسط كورال من المرضى الذين تحسنت حالتهم النفسية وأصبحوا قادرين على الاختلاط بالمجتمع ومهما تحسنت حالة المريض النفسى فلابد له من جلسات تأهيلية لتعليمه الاندماج فى المجتمع مرة أخرى، وهو ما تؤكده الدكتورة حنان الغديرى، أستاذ الصحة النفسية ومدير مركز التأهيل النفسى فى مستشفى الصحة النفسية، مشيرة إلى ضرورة أن يخضع المريض النفسى لتلك التمرينات والهوايات من أجل إعادة دمجه فى المجتمع وهى المرحلة التى تسبق خروج المريض من المصحة. بتلقائية شديدة يصطف عشرات المرضى على خشبة المسرح، فى مشهد اعتاده المشرفون فى المركز التأهيلى، حيث حرص الرجال فيهم على ارتداء «بيجامة» أثناء تأديته البروفة وحرصت السيدات على ارتداء ملابس بسيطة تتمثل فى جلباب منزلى. يقف سعيد لأكثر من ساعتين متواصلتين على خشبة المسرح قابضا على الميكروفون فى يده يغنى لعبدالحليم حافظ بصوته الجهورى «سواح.. وأنا ماشى ليالى»، وينتهى من الأغنية ويعقبها بأخرى تتردد على ذهنه بشكل متوال لا يشعر فيه بالتعب ولا يتوقف لحظة، حتى فى تلك اللحظات التى تنتهى فيها الموسيقى والعزف فإنه يستمر بدندنته التى اعتادها الجميع من حوله.. يستقيم سعيد على خشبة المسرح متأهباً للغناء محاولاً تنسيق ملابسه بين الحين والآخر، يبدأ فى الغناء، ويردد الواقفون من حوله ما يجب عليهم قوله، ثم يعيد سعيد الفقرة التى تغنى بها لأكثر من ثلاث أو أربع مرات، وهكذا اعتاد سعيد الوقوف والغناء والتردد على المركز التأهيلى ثلاث مرات أسبوعياً لحضور هذه الجلسات. يدرك سعيد فى عفوية شديدة دور المايسترو وأهمية متابعة إشاراته طوال فترة الغناء، فوقتما أشار له بالتوقف بادر بالثبات والصمت والالتزام بالدقة فى الغناء الجماعى الذى يتدربون عليه دائماً، والالتزام لا يعنى أبدا التركيز التام فهناك من لا ينتبه إلى تلك النغمات منشغلاً بالتدقيق فى الآخرين والنظر يميناً ويساراً والانشغال بأشياء أخرى بعيدة عن الغناء، إلا أنهم فى النهاية يلتزمون الصف دون أدنى تجاوز من أحد. التأهيل النفسى للمرضى لا يقف عند حد ممارستهم الغناء والموسيقى وإنما هناك جلسات للرسم وأخرى لتمرينات بدنية وذهنية يقوم بها المريض طوال فترة التأهيل، قد تتجاوز الشهور ولكنها تختص بالمرضى الذين تحسنت حالتهم النفسية نسبياً وتوقفت عندهم الأعراض المصاحبة للمرض المتمثلة فى العنف والاعتداء على الآخرين. تجلس عبير البالغة من العمر 49 عاماً ممسكة بورقة رسم كبيرة وفى يدها الأخرى علبة من الأقلام الملونة، وتبدأ فى رسم ما يجول بخاطرها من بورتريهات للآخرين ومناظر طبيعية وغيرها من الأشياء التى تلفت نظرها، ودفعها تميزها فى الرسم إلى الاحتفاظ بلوحاتها القديمة لتعرضها على زائرى المكان، وبين الحين والآخر تتحدث إلى الواقفين مؤكدة أنها طوال عمرها وهى تحب الرسم وأنها كانت تمارسه قبل الدخول إلى المستشفى بأعوام. لا تخلو اللوحات المرسومة من أشكال ورسومات ترتبط بطقوس شهر رمضان الكريم، فتحاول فتحية بكل ما تملكه من ألوان أن تبرز فانوس رمضان فى صورة مبهجة، مؤكدة أنها تحب شهر رمضان وتحب الفانوس الذى رسمته، وتبدأ فى عرض لوحاتها على جميع الواقفين لتلقى قبولهم واستحسانهم لما رسمت، وتعاود رسمها بخطوط غير مفهومة، وهو ما أكدته المشرفة الاجتماعية بأنه يظهر ما بداخلها من مشاعر ومدى ما تشعر به من فرحة أو حزن. التأهيل لا يعنى الموهبة فقط ولكن هناك جلسات تعيد المرضى إلى مرحلة التعليم فيتعلمون الحروف الإنجليزية وبعض مفردات اللغة الإنجليزية مثل أسماء الحيوانات والفاكهة وغيرها من البدائيات فى اللغة. حالة المريض النفسى أثناء خضوعه لتلك الجلسات التأهيلية تختلف تماماً عن حالته داخل عنبر المرضى وهو ما قالته «أمل» إحدى رواد المركز التأهيلى، واصفة المكان بأنه «جو رومانتيكى» وتصف حالة الأقسام والعنابر قائلة: «جوها جو مرضى وعيانين إنما المركز التأهيلى حلو قوى» وتشير إلى انتظامها فى الحضور للجلسات التأهيلية قائلة: «أنا بقالى فترة كبيرة قوى فى المستشفى، حوالى 23 سنة، ودايماً بحضر فى المسرح وبغنى لأنى بحب الغنا جداً بس أنا مش هتافة كويس.. أوقات بيبقى عندى كحة ومبعرفش انتظم فى الغنا معاهم بس الأستاذ سيد بيدربنى كويس». فى الوقت الذى تنتظم فيه أمل فى حضور بروفات الغناء تجد عبير محمد إحدى المريضات نفسها فى كتابة الشعر، فتقول: «أنا بحب أسمع الغنا.. بس مش بغنى لكن بعرف أكتب شعر، وباجى هنا أقولهم شعر وهما عارفين إنى باكتب شعر». وتؤكد الدكتورة حنان الغديرى أن العلاج التأهيلى يهدف إلى الإقلال من الأعراض الحادة وقالت: نستقبل المرضى بعد الإقلال من الأعراض الحادة مثل الهلاوس والعدوانية وغيرهما من الأعراض ويكون العلاج التأهيلى هو الداعم لكل السلوكيات الإيجابية فى المجتمع. وأكدت أن العلاج التأهيلى هو الخطوة الأخيرة التى تسبق خروج المريض من المستشفى، والتى تساهم فى إعادة دمجه فى المجتمع.