(المنحة) فى قلب (المحنة)

مازال السادة القراء يدهشوننى بتعليقاتهم ورسائلهم البديعة التى تفيض عذوبة ورِقّة وتمتلئ بتجربة إنسانية فياضة يقف أمامها الإنسان خاشعاً ومتأملاً. مثال ذلك التعليق الذى نشر بالموقع الإلكترونى للجريدة تعقيبا على مقال السبت «يوميات مواطن مصرى» الذى عرضت فيه كيف يحفل يوم المواطن المصرى بالتعب ويمتلئ بالمعاناة، ويخلو من أى لمسة رفاهية. أترككم مع التعليق وعندى مفاجأة صغيرة فى نهاية المقال. يقول الأستاذ سامى كريم صاحب التعليق
«إنه ليخيل إلىّ أننى أعرف هذا الشاب. إنه يجلس معى فى نفس العربة تقريباً، ويشترك معى وأربعة آخرون فى نفس التذكرة. يعرفه معظم الكمسارية تقريباً لأنهم قد اعتادوا وجهه السمح. كلمته مرة عن فلسفته فى الحياة ورؤيته. وكيف يتحمل هذه المشقة يومياً من أجل لقمة العيش؟. بل كيف يطيق الحياة الصعبة فى مصر كلها؟. كيف يدير معركته اليومية مع حرب المواصلات؟. وكيف ينظر إلى كل هذه الأوضاع المقلوبة من حوله؟. فقال لى جملة واحدة «مع كل محنة منحة»، فإذا كنت فى محنة بحثت عن المنحة الكامنة فيها. مثلاً: محنة السفر خمس ساعات يومياً أتاحت لى وقتاً هائلاً للقراءة والتعلم وحفظ القرآن واستكمال الدراسات العليا. المشى نصف ساعة يومياً من رمسيس حتى مقر العمل جعلنى نشيطاً. رؤية مناظر الطبيعة من خلال نوافذ القطار جعلتنى أفكر فى عظمة الخالق وعوضتنى عن الجلوس فى النادى أو المقهى.
قلت له: ولكن السفر اليومى مشقة!. قال لى: الفراغ أشد إرهاقا من العمل الشاق. هل جربت أن تجلس فى بيتك عاماً كاملاً دون عمل؟. قلت له: ألا تفكر فى تغيير الواقع حتى من أجل ابنك «يحيى» حديث الولادة؟. قال: ومن قال إننى لا أفكر أو لا أدعو إلى تغيير الواقع؟. أنا بدأت بنفسى وأدعو غيرى دون ضجيج.
قلت له: هل لديك مشاريع علمية؟ قال: أنا الآن بصدد تكوين نفسى علمياً وأخلاقياً، وفى ذهنى مشاريع علمية ضخمة، بل تأسيس جمعيات أهلية مهمتها تحويل الكلمة إلى واقع حى يتحرك بيننا. فلم أدر ما أقول له وسكت. فوجدته يخرج مصحفاً صغيراً من جيبه ليحفظ بعض الآيات. حتى إذا ما وصل عمله تصفح الجرائد مبتدئاً ب«المصرى اليوم»، ثم أنهى أعماله الوظيفية، ثم قرأ جزءا من أحد الكتب الإلكترونية لمدة ساعة، ثم انطلق إلى بيته فى رحلة العودة فى قطار 157، وبالطبع لا يجد مقعدا خاليا فيقف طوال الرحلة يستعيد ما قرأه اليوم ويتفكر فيه ويراجعه».
انتهى التعليق وبقيت المفاجأة الصغيرة التى أعتقد أنكم أصبحتم تتوقعونها الآن، صاحب هذا التعليق هو نفسه صاحب اليوميات الذى كتبت عنه، ولعلكم الآن أدركتم لماذا ظلت مصرنا الغالية تقاوم الانهيار رغم كل عوامل التجريف والتخريب التى حدثت فيها!!.
aymanguindy@yahoo.com