فى هذا الجزء الأخير، وهو يستغرق مقالين، دعنا نحلل وسائل التعامل مع الأزمة الاستراتيجية بقصد حلها. دعنا نكرر، للتذكرة، أن الأزمة الاستراتيجية أزمة هوية وتكوين، بعبارة أخرى: إننا نقول ونعنى أن الأزمة الاستراتيجية تأتى تعبيراً عن أزمة فى بناء قوة دولية لدولة ما فى سياقها الدولى. فالأزمة الاستراتيجية هى أزمة فى طبيعة ارتباط الدولة بالنظام الدولى العام سواء على مستواه الإقليمى أو على مستواه العالمى. فى قاموسنا هناك عشرة مبادئ يجب الاسترشاد بها عند التعامل مع الأزمات الاستراتيجية: أولاً: مبدأ تحديد الهدف، ويتطلب الأمر فى البداية تعيين مدير واضح لإدارة الأزمة. الأزمة الاستراتيجية لها طبيعة ممتدة وتدفع عوامل عديدة إلى التشابك والتعقيد طالما استمرت الأزمة، وبالتالى يتعين على مدير الأزمة أن يحدد هدفه بدقة بالاستناد على مهاجمة الأزمة فى اللحظة المناسبة التى سيكون فيها جدار الأزمة أكثر قابلية للإصابة والاختراق. شجاعة صانع القرار الاستراتيجى فى هذا المجال تكمن فى اتخاذه قرارات صائبة بعد دراسة مهنية وتقدير دقيق للموقف وليس فى المجازفة بقرارات عشوائية ينجم عنها خسائر جسيمة أو نتائج لا تحمد عقباها، ثانياً: مبدأ الاحتفاظ بحرية الحركة وعنصر المبادرة، ترجع أهمية تحقيق عنصر المبادرة إلى أنها تدفع وتؤدى بالطرف الآخر إلى الوقوع فى دائرة رد الفعل. ثالثاً: مبدأ المباغتة، ويعتبر هذا المبدأ من المبادئ المهمة للتعامل مع الأزمات، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، حيث تؤمن ولفترة مناسبة من الزمن السيطرة شبه الكاملة على الأزمة. وبالتالى فإنه إذا تم تأمين المباغتة فإنها تحدث نوعاً من الذهول لدى القوة الصانعة للأزمة، وتحت تأثير الصدمة المباغتة يمكن التعامل معها والتفاعل معها، أو شل حركتها وتطويعها إلى فترة مناسبة من الزمن. هنا لابد من التفرقة بين نوعين من المباغتة: الأولى حركية سلوكية والأخرى بناءة هيكلية. الأزمة الاستراتيجية تتطلب النمط الثانى من المباغتة وهو الذى يتلخص فى بناء القدرة على توفير موارد اتصالية متعددة ومختلفة التأثير فى اللحظة ذاتها. فى سياقنا هذا يبرز معنى المباغتة الاستراتيجية التى تؤدى إلى ذهول استراتيجى. رابعاً: مبدأ الحشد، الذى يتلخص فى القدرة على جمع القوة اللازمة التى يناط إليها معالجة الأزمة فى الزمان الذى يهيئ الوفرة الفنية للقوة والمكان المناسب لتأمين تنفيذ عملية مواجهة الأزمة والقضاء على أسبابها وعناصرها أو تغيير عناصرها بشكل فعال فتصير أزمة أخرى أقل حدة بالتالى غير استراتيجية، أى تحويلها إلى أزمة من أزمات السياسة الخارجية. هذه القوة اللازمة تتضمن عناصر متعددة، بعضها يرتبط بالمكان الذى حدثت فيه الأزمة، التى ستتم مواجهتها فيه، وبعضها يرتبط بالأزمة والمرحلة التى حدثت فيها، وبعضها الآخر يرتبط بما يمكن لمدير الأزمات حشده وتعبئته مادياً ومعنوياً، من أجل مقاومة الأزمة والقضاء عليها. فمن هنا يمكن القول إن القوة اللازمة فى هذا السياق ما هى إلا نتاج تفاعل ما بين المكان والزمان الذى حدثت فيه الأزمة من جهة، وبين ما يمكن إيجاده وحشده من موارد وطاقات وإمكانيات وخبرات وتقنيات، وقوة بشرية قادرة وفاعلة وراغبة فى معالجة الأزمة، من ناحية أخرى. ربما تطلب الأمر اللجوء إلى الصدام مع قوى صانعة الأزمة. الصدام مع القوى صانعة الأزمة قد يكون الخيار الوحيد المتاح استخدامه أمام متخذى القرار، سواء لنقص المعلومات، أو لتدهور الأحداث سريعاً، أو لعدم الاستجابة الواضحة من جانب القوى صانعة الأزمة للتفاهم الإقليمى، إلا أنه يجب مراعاة أن التدخل العنيف ربما لا يأخذ شكل الحرب المعلنة، ولكن التوتر الواضح بقصد إحداث الخلخلة وانعدام التوازن وتعظيم الخسائر المادية والمعنوية لدى القوة الصانعة للأزمة ولدى المؤيدين لها. بعبارة أخرى، يكون هدف الحشد إحضار الخصم إلى مائدة المفاوضات وهو قابل للتفاوض وليس مستسلماً، خامساً: مبدأ التعاون بين الخبراء والمصادر المختلفة للقوة، يعد هذا المبدأ من المبادئ المهمة التى تساعد مدير الأزمات على إدارة الأزمات بالشكل الصحيح، لأن الأمر يحتاج، فى ظروف الأزمة وتداعياتها، إلى تعاون الجميع وتكاتفهم وتلاحمهم لمعالجة الأزمة التى يواجهونها، خاصة عندما تكون هناك حاجة ودور لكل منهم لتأديته عند التصدى للأزمة، سواء لوقف تصاعدها أو لحرمان تيار الأزمة من تلقى مصادر الدعم والتأييد من روافد معينة أو من قوى جديدة. يعد التعاون فى التعامل مع الأزمات من العوامل الحيوية إن لم يكن أهمها حيوية على الإطلاق. فالتعاون بهذا المغزى والمعنى يساعد مدير الأزمات على اتساع رؤيته، وعلى شمولية تشخيصه، وعلى تكامل فعاليته للأزمة، بالإضافة إلى ما يتيحه التعاون من سرعة ودقة فى إفقاد الأزمة مقوماتها، خاصة إذا ما كان فريق العمل الذى أنيط له معالجة الأزمة متنوع الخبرات والقدرات. ويستمر تحليل بقية المبادئ العشرة لحل الأزمات الاستراتيجية.