القاعدة الفيزيائية تقول إن «العك لا يتجزأ»، وحتى لو لم تكن هناك قاعدة فيزيائية تقول ذلك بالفعل، ستستنتجها بنفسك وأنت ترصد مظاهر انعدام الكفاءة والضعف المهنى وغياب الاحتراف التى تسود كل جوانب حياتنا من أروقة الحكم إلى زخانيق المعارضة، ومن المؤسسات الخدمية إلى المنابر الصحفية والإعلامية، وكل ذلك مما لا يخفى على فطنتك، وحتى لو لم تكن فطنا فأنت لن تحتاج الفطنة طالما أنت مغموس فى ذلك العك إلى الأذقان. القاعدة التاريخية تقول إن تغيير الحاكم العكاك لا يحدث إلا على أيدى نخبة معارضة تقود الناس الذين يصدقونها لأنها خالية من العك أو حتى أقل عكّا، فلا يوجد إنسان معصوم من العك، ولذلك عندما يرى الناس أن النخب المعارضة ليست سوى نسخ أكثر عكّا من العكّ الرسمى، يفضل الناس إتباع غريزة البقاء التى خلقها الله داخلهم ويقررون الانكفاء على ذواتهم والاكتفاء بالبحث عن مخارج شخصية آمنة لهم ولأبنائهم ولذويهم من العك الضاربة أطنابه فى أرجاء الوطن. ولأن العَكّ بالعَكّ يُذكر، لا تسلنى لماذا لم ينجح هذا السيل المتدفق من الصحف والمجلات والبرامج التى تَغُصّ بالكتاب والمذيعين والمعلقين والمناضلين الفضائيين ونمور الهواء فى جعلنا أقل عَكّا، بل اسأل نفسك لماذا صار عزيزا ونادرا أن نجد من بين هؤلاء الذين صاروا أكثر من الهم على القلب أحدا يشغل نفسه بأن يقول للناس كلاما خاليا من العك أو حتى كلاما به نسبة آمنة من العك، كلاماً متعوباً عليه، كلاماً يفكر فيه ويتأمله قبل أن يقوله أو يكتبه، كلاماً لا يسمعه هو من الذين حوله قبل أن يرتقى منبره الصحفى والإعلامى ليبُخَّه ثانية فى آذان الناس وعقولهم ظنا منه أنه بهذا يعبر عن الناس ويؤدى واجبه، وهو لا يدرى أنه يزيد الطين بلة ويساهم فى تكريس حالة التشوش والتخبط التى جعلت المذهب الفكرى الأكثر انتشاراً لدينا، مذهب «ماحدش فاهم حاجة». المشكلة أنه عندما يأتى كاتب موالس ليقول للناس إنهم يعيشون فى أزهى عصور الحاجات، لا يصدقه الناس لأنهم يعرفون جيداً فى أى عصر يعيشون، لكن عندما يأتى كاتب متساخط ليقول لهم إنهم سيروحون حتماً ولزماً فى ستين داهية وأن البلد خلاص ضاعت وذاهبة إلى الجحيم، يصدقونه فوراً، لأنهم لا يعرفون أنه يغلق فى وجوههم أبواب الأمل بعد أن أمّن مستقبل أولاده وربما أحفاده، يصدقونه للأسف لأن اليأس أرخص بكثير وأقل إرهاقاً من الأمل. عندما يرى الناس فضائياً موالساً يبصقون عليه بعزم ما فيهم، خاصة وقد زاد الله هؤلاء بسطةً فى الغتاتة والكلاحة تساعد على ألا تأخذك بهم رأفة ولا شفقة. لكن الناس يا عينى عندما يرون جنرالاً فضائياً يمتشق صهوة فرسه ويصول ويجول فى تسويد عيشتهم وتسخيف كل المعانى فى نظرهم، يصدقونه لأنهم لا يعرفون مع من سيتعشى بعد أن يخرج من «هوائه»، ولا يعرفون شيئاً عن تربيطاته وأجنداته ولا عن خدر البطولة اللذيذ الذى يسرى فى دمائه بفضل تصديقهم له. تقتضى الأمانة أن أُقِرّ أمامك بأن هناك من يصدقون أنفسهم تماماً عندما ينفثون اليأس فى وجوه الناس، لأن أغلبهم ينتمى إلى جيل كان مُناه يا ولداه أن يرى مصر فى حياته كما حلم بها، ولأنه يعلم أن ذلك صار أمراً صعب المنال، فقد قرر أن يقاسمه الناس إحباطاته ويأسه، دون أن يفكر فى خطورة ما يقوله على الذين مازالوا يبدأون حياتهم، ولم يحصلوا على عشر معشار ما ناله حضرة اليائس فى حياته، أو لعله للأمانة فكر فى خطورة ما سيقوله، ثم قرر أنه ليس مطلوباً منه سوى أن يبدى وجهة نظره كما يراها وخلاص، لأنه سيخدع الناس لو قال لهم إن هناك أملا فى البلاد وخيراً يرتجى من شعبها، وهى درجة من الصدق تذكرك للأسف بأولئك الصادقين الذين ضجوا من إحباطات الحياة ولم يحتملوا ضغوطها فقرروا أن يسرحوا فى الشوارع بشعور منكوشة وأسمال بالية، وأجساد خاصمت «الحموم»، ونفوس خاصمت الأمل، وعقول خاصمت المنطق، جاعلين مهمتهم فى الحياة لعن سنسفيل الناس وتبشيرهم بالويل والثبور وفظائع الأمور، لكن هؤلاء للأمانة أكثر صدقا مع النفس من الذين يبشرون الناس بنيران الجحيم القادم التى ستحرق كل شىء، بينما هم ينتقلون أثناء تبشيرهم بالجحيم من تكييف العربية إلى تكييف المكتب إلى تكييف الاستديو. [email protected]