تريد أن تتصل برقم هاتفها القديم المكون من أربعة أرقام! أتود حقاً أن تفعل ذلك؟ يا لك من أحمق! ألا تعلم أن السنترال القديم قد تغير منذ ربع قرن! خمسة وعشرون عاماً كاملة تفصلك عن الرقم القديم. أرقام الهاتف تتكون الآن من سبعة أرقام. وبرغم ذلك تحنّ للرقم القديم، للدنيا البكر قليلة العدد، لمجرى النهر الذى جف تماما وطمرته الرمال، للفتى القديم الذى كنته وتحن إليها! 4151 هذا هو رقم هاتفها القديم. عمرك عشرون عاماً. يتألق صباك كبريق لؤلؤة خرجت من المحارة لتوها. لم تكن الطرقات قد ازدحمت بعد بهذا العدد المروع من البشر، ولم يكن الياسمين قد تم اغتياله بعد، ولم يكن التليفزيون بدأ خداعه بالألوان المزخرفة بعد. ثمة لونين هما الأبيض والأسود، ودرجات لا حصر لها من الرمادى الجميل. وعندك أيضا أكداس الذكريات: صلاة الجمعة وبرنامج عالم الحيوان ومباراة كرة القدم بصوت محمد لطيف. تخيل أن نجومك هم زيزو والخطيب، وحسن شحاتة دون شعرة بيضاء واحدة! وتخيل أيضا أن المساء يدخر لك برنامج (اخترنا لك) بوجه «نجوى إبراهيم» الصبوح، أما منتصف الليل فموعد لقاؤكما السرى عبر الهاتف، والهاتف ضخم أسود ملىء بالثقوب. تديره فتشعر بأنك تقود دفة فى وسط المحيط. تحمله إلى غرفتك لتمارس طقوس الاتصال. دقة صغيرة ثم تعاود الاتصال. تلك هى كلمة السر التى تنتظرها لترفع السماعة بيدها الصغيرة، وينساب صوتها العذب، صوتها الجميل. سنين طويلة تعاقبت، واكتسحت الألوان عرش الصدق الرمادى، واكتظت الطرقات بالبشر، وتحول الهاتف العتيق إلى أزرار. لكن الهاتف العتيق عاد فجأة إلى عالمك. وجدته فى أسفل صندوق قديم تعلوه الأتربة، مكوما مفككاً منكفئاً على رأسه، مثيرا للشفقة. لكنه برغم ذلك أعذب شىء فى عالمك. أستخلصته من وسط الركام ورحت تمسحه فى رفق كوليد نفيس. وفجأة خطرت ببالك فكرة مجنونة: هل يمكن أن تتصل بالماضى؟ وما الذى يمكن أن يحدث لو اتصلت بالرقم القديم؟ قال عقلك: لن يحدث شىء، هذا رقم لا وجود له. وقال قلبك: بل سيحدث كل شىء. إنها موجودة هناك فى عالمها القديم. المهم أن تُنفذ الطقوس القديمة حرفيا. تحمل الهاتف العتيق إلى حجرتك، تحنو عليه بأناملك وتشبث بالثقوب المعدنية المتسعة. دقة واحدة ثم تعاود الاتصال. وها أنت ذا الآن، بأصابع مرتجفة تطلب الرقم. تتشبث بثقوبه المتسعة ممسكا بدفة السفينة إلى مرفأ الذكريات. يترامى الرنين القديم إلى عالمها المسحور. ينفض عنه غبار السنين ويرتجف رجفة البعث. وفجأة تحدث المعجزة، وتسمع صوتها الحبيب، صوتها القديم. - آلو ولا تستطيع الكلام، تعتصر السماعة بين يديك، فتعاود التساؤل نافذة الصبر: آلو. آلو. آلو لكنك لا تجيب. تقف معدوم الحيلة تغزو القشعريرة جسدك. ممسكا بالسماعة السوداء الضخمة عاجزا عن النطق، عاجزا عن التنفس، لا تدرى ماذا تفعل بنفسك من فرط الحنين. [email protected]