لا يملك المطلع على الكتاب الذهبى للمحاكم الأهلية من عام 1883 حتى 1933 والمطبوع بمجلديه الكبيرين سنة 1937- لا يملك أن يفارقه إعجابه بهذا العمل العظيم اللافت، بدءاً بالطباعة الفاخرة على الورق المصقول الفاخر، وفنون الخط العربى البديعة، وانتهاءً بكل ما حواه وحفظه للأجيال بتسجيله المميز الدقيق والمشفوع بالصور النفيسة لصفحات وأعلام القضاء المصرى فى ذلك الزمان.. هؤلاء الذين تسلموا الأمانة فى زمن مثخن بآفات كثيرة ليضعوا لبنات أساس عريض ويثابروا فى جد وإخلاص على استكمال البناء ليسلموا للأجيال التالية راية للقضاء جديرة به وبمصر فى تطلعها إلى مستقبل مزهر.. فلا يكاد المطالع للكتاب يمضى مع آيات عديدة جديرة فيه بالإعجاب، حتى يلفته بقوة ما كانت عليه العلاقة القائمة على التقدير المتبادل البالغ بين القضاء وبين المحاماة .. كلاهما متجاوران سواء فى الاحتفال بافتتاح محكمة استئناف أسيوط فى 10/3/1926 الذى خطب فيه من رجال المحاماة حضرة صاحب العزة الأستاذ إبراهيم الهلباوى المحامى الكبير وحضرة الأستاذ ناشد حنا نقيب محامى أسيوط وحضره المحامون مع القضاة، أم فى الاحتفال بإنشاء محكمة النقض فى 5/11/1931 الذى فيه اطرى قاضى القضاة عبدالعزيز باشا فهمى المحاماة إطراء العارف المقدر الحفيظ على هذه الصلة القائمة على التقدير المتبادل .. ثم لا يكاد يفرغ المتأمل من الالتفات إلى هذه الملحوظة حتى يدرك أن الأمر لم ينحصر فى مجاملات أو تشارك فى احتفالات، وإنما صارا فيه- القضاء والمحاماة- شريكين قسيمين أو يكادان فى تدبيج الكتاب الذهبى نفسه عن المحاكم الأهلية، فيكتب- إلى جوار القضاة- صاحب العزة عزيز خانكى بك المحامى عن التشريع والقضاء قبل وبعد إنشاء المحاكم الأهلية، مثلما يكتب عن المحاماة قبل إنشاء المحاكم الأهلية، ويكتب عنها بعد إنشائها صاحب العزة توفيق دوس باشا المحامى، ثم يكتب صاحب العزة إبراهيم الهلباوى المحامى عن أعلام القضاء: الأستاذ الإمام محمد عبده الذى أمضى فى القضاء سبع سنوات من عام 1888 حتى عين مفتيا للديار المصرية فى 5/6/1899، وعن الأستاذين القاضيين الكبيرين حسن باشا عاصم وقاسم أمين صاحب «تحرير المرأة» و«المرأة الجديد»، وكما يكتب صاحب العزة مصطفى بك محمد عن المجالس الحسبية وصاحب السعادة أمين أنيس باشا عن محكمة النقض والإبرام، وصاحب العزة كامل مرسى بك (باشا فيما بعد) عميد كلية الحقوق عن الكلية، وصاحب العزة صليب سامى بك (باشا فيما بعد) عن إدارة قضايا الحكومة التى يرأسها نرى الأستاذ زكى عريبى المحامى يكتب عن لغة الأحكام - نعم الأحكام- إلى جوار كتابته عن لغة المرافعات.. هذا التجاور يحس القارئ بمنابعه ورسوخه حين يرى كثيرا من رجال القانون قد تقلبوا ذهابا وإيابا بين القضاء والمحاماة كسعد زغلول ومحمد لبيب عطية وحامد فهمى وسيد مصطفى وسليمان حافظ وأحمد نشأت ومصطفى مرعى وغيرهم، وحين يرى أن منصب وزير العدل أو الحقانية فيما سلف- لم يكن قصرا على رجال القضاء، فشغله محامون قضاة وقضاة محامون قبل كثير من تعيين الرئيس جمال عبدالناصر للمحامى فتحى الشرقاوى وزيرا للعدل فى الستينيات.. لم يكن ذلك التعانق رضوخا أو استجابة لنص- قائم الآن ولكنه معطل- يخصص نسبة للمحامين فى تعيينات القضاء، وإنما صدى لاقتناع عميق متغلغل فى نسيج رجال ذلك الزمان الذين آمنوا بأن رسالة العدالة تضم الجميع فى حناياها بتآخٍ وتقدير متبادل. إذن لم يكن حديث عبدالعزيز باشا فهمى فى حفل إنشاء محكمة النقض- مجرد كلمات طلية لزوم الاحتفال والمجاملات، وإنما كان تعبيرا صادقا عن حالة حقيقية نجح بها هؤلاء الأسلاف العظام فى الخروج من «زقاق» «الانحياز» الفئوى إلى باحة الرؤية الشاملة التى تدرك أن رسالة العدالة جديرة بأن تؤلف بين الساعين فى محرابها وأن تجمعهم- مهما اختلفت مواقفهم وأطروحاتهم- على غاية واحدة، وألا يخل اختلاف المواقع أو الأدوار بإحساس الجميع بأنهم ينتمون إلى أسرة واحدة وتجمعهم- رغم اختلاف الرؤى- غاية واحدة.. فنرى فى مجلدى الكتاب الذهبى للمحاكم الأهلية- كيف أن رجال القضاء ورجال المحاماة قد انصرفوا جميعا إلى همهم فى خدمة العدالة بلا تحوصل أو تمحور أو انحياز، ونعجب لهم وبهم وهم يتبادلون المواقع بلا حساسية، فيتحدث قاضى القضاة والقضاة عن المحاماة والمحامين، ويتحدث المحامون عن القضاء والقضاة والمحاكم الأهلية والحسبية. ومع أن الكتاب الضافى هو للمحاكم الأهلية وعنها، بما يغرى بأن يقتصر التناول والحديث فيه على المحاكم والقضاء والقضاة، فإننا نرى أن الكتاب الذهبى يفسح المجال- راغباً مرحباً بالمحاماة وقضاياها وبنائها وسبلها.. يكتب الأستاذ زكى عريبى المحامى عن لغة المرافعات، ويفسح الكتاب للمحامى النابغة أحمد رشدى ليتحدث عن «المحاماة كما يعرفها».. فيورد- فيما يورد- عن دراسة المحامى وثقافته الواجبة «إن من التزيد فى الكلام أن يقال إن على المحامى أن يتفقه فى القوانين فهما واستذكاراً، فما ينبغى أن يكون المحامى شيئا إذا لم يكن كذلك. أما أن يصبح محاميا حقا فذلك يوم لا يفوته النصيب المسعف من كل علم بينه وبين عمله صلة تكاد لا تنقطع. إنه لا محيص له من أن يصيب حظا وافرا من الفقه الشرعى والتاريخ والمنطق وعلم الاجتماع وعلم النفس وآداب البحث والمناظرة، إلى حظ موات من مبادئ العلوم الطبية والميكانيكية، وليس ذلك بعجيب ولا هو بمستكثر.. إن ضرورة العمل وحسن أدائه أصبحا يقتضيان من المحامى أن يختزن فى وعاء قلبه من المعارف ما لا يتأدى التوفيق فى المرافعة وبحث القضايا إلا به. أليس مما يشين المحامى أن يكون لقضيته اتصال بفن من الفنون، وأن تنضاف إلى أسانيدها تقارير خبراء فنيين ثم يقف هنالك زائغ البصر عاجزاً عن تفلية هذه التقارير ليميط ما فيها من باطل أو ليقيم ما بها من حق؟!».. ثم فى سلاسة حانية، وبصيرة نافذة، يوصى المحامين بوصاياه النفيسة وبفنون المرافعة من حصاد تجربته الطويلة المتميزة. ومن اللافت أن هؤلاء الأسلاف قد بنوا هذا البناء قبل أن يدين لهم ما دان لنا اليوم من المعارف والعلوم والثقافة مما كان محل سعى وطلب ومجاهدة للتحصيل فى زمن هؤلاء الأسلاف الذين وضعوا الأساس، فلم يكن فى قبضتهم ومتناولهم ما صار سهل المنال ميسور التحصيل فى مصادر عديدة تزايدت فى زماننا مبوبة ومفهرسة فى المجموعات والمراجع وشبكات الإنترنت.. وتراكمت إلى جوار المعارف- التقاليد- التى صارت دستوراً مكتوبا وغير مكتوب، ومع ذلك فإن جعبة اليوم خلت من كثير مما ضربه الأسلاف من أمثال وخطوه وحفروه من قيم وتقاليد ومبادئ.. كانت جعبة الماضى فى هذا الجانب أكثر ثراء وبعداً عن الكبوات.. وربما كان مرجع هذا إلى موجة الإنشاء والتأسيس وما يصاحب هذا عادة من همم ماضية وجد خالص تستلزمه الآمال الكبار فى البناء!! وهذا قريب من دورات الحضارات التى تصاحبها إيجابيات فى مرحلة البناء والتكوين والاندفاع، ثم سرعان ما يصيبها التراخى ثم الوهن والتحلل والتفكك بما يصاحبه من ميل كل فئة إلى «التمحور» الذى يسلس- وربما باللا وعى- إلى الانحيازات الفئوية التى تعطل فى الواقع رسالة العدالة، وتحل سلبيات ناحرة محل إيجابيات ثرية معطاءة كان حريا بالحاضر أن يضيف إليها لا أن ينحر منها!! [email protected]