مناضلون يساريون صابر زايد علمتني الحياة أن أصنع أي شيء، وأن يداي قادرتان علي صناعة كل شيء أحتاجه، فأصبحت محترفا متخصصا في صناعة آلات الطباعة والعمل عليها وإخفاء كل شيء بمهارة. صابر زايد إسكندراني أصيل، من أسرة فقيرة تعمل في تجارة الورق، لكن الرزق شحيح ولا يملك صابر ترف الاستمرار في التعلم، فيصبح عامل نسيح في مصنع بولفارا وفي مطلع الأربعينيات يصبح عضوا في الحركة المصرية للتحرر الوطني، وعبر عام أو عامين يصبح قائدا نقابيا في المصنع، ومن ثم يصبح قياديا في فرع الإسكندرية من «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال»، ويلتهب حماسا مع المظاهرات الصاخبة وتلتهب به المظاهرات حماسا، وفي 4 مارس 1946 يوم الإسكندرية العظيم يكون أحد القادة البارزين.. ويتواصل في النضال حتي إعلان الأحكام العرفية في 15 مايو 1948 ليكون من أوائل المعتقلين ويتنقل من معتقل لآخر إلي أن يفرج عنه 1950 مع إلغاء الأحكام العرفية، وفي 1951 وإذ يلتهب الكفاح المسلح في القناة يشكل مع رفاقه كتيبة للمقاومة المسلحة وتقدم الكتيبة أول شهيد يساري في معارك القتال الشهيد «عباس الأعصر» وتحترق القاهرة في 1952 ومرة أخري الأحكام العرفية، ومرة أخري إلي المعتقل ثم تأتي ثورة يوليو فيفرج عنه ليواصل ذات الطريق، ومع أول صدام مع ضباط يوليو يعتقل أيضا وهذه المرة إلي سجن روض الفرج، ويقول صابر في حواره معي «في ذات ليلة وأنا في المعتقل تأملت شريط حياتي وقلت ها أنا في كل مرة يقبض علي كالفرخة، وقلت «ثلاث مرات تكفي» ولن يقبض علي أبدا بعد ذلك. كان معه في المعتقل عديد من الرفاق منهم حمدي عبدالجواد، ضياء الدين بدر، حليم طوسون وآخرون، تأمل شبابيك ومخارج السجن وجلس هو وحليم طوسون يخططان دون أن يعلم أحد لعملية عرفت باسم «الهروب الكبير» ويمضي صابر قائلا «العملية نظريا سهلة صفيحة منشار تقطع المسامير التي تثبت حديد الشباك، الحديد عبارة عن برواز ضخم لو نجحنا في خلعه ثم ينام علي سور السجن ثم نثبت فيه ملايات السراير ليهبط عليها الهاربون، وتبقي مشكلتان كيف يتم تهريب صفيحة المنشار والثانية كيف يتم استبعاد جندي الحراسة القابع فوق سور المعتقل والآخر القابع أسفل السور، تكفل صابر بحل المشكلة الأولي فقد كان معتقلا معهم النبيل عباس حليم وكان النبيل قد حاول منذ أمد أن يصبح قائدا للعمال ومن هذه الزاوية اصطاد العامل الماكر النبيل الساذج ورتب معه أن ندخل صفيحة المنشار داخل رغيف فينو طويل يأتي ضمن الطعام الفاخر الذي يحصل عليه النبيل يوميا، أما مشكلة الحارس علي السور فقد حلها حليم بعد أن استخدم عشرات من البيض الفاسد براحته الكريهة لإلقائهافي كل ليلة خارج السور بحيث لا يطيق الجندي أعلي السور البقاء في مكانه، أما أسفل السور فقد كانت هناك لمبة تتدلي من الشباك لتضيئ للجنود هذا الممر، واستحضر حليم لمبة كبيرة جدا وقوية جدا بحيث لا يمكن للجندي أن يرفع بصره إليها ومن ثم يمكن الهروب دون أن يراهم أحد، وتمت خطة الهروب الكبير سبعة من أهم الكوادر أفلتوا من المعتقل الناصري وثار عبدالناصر وأمر بحملات قبض جديدة. أما صابر زايد فقد صمم علي شعاره ثلاث مرات تكفي، وخاض رحلة هروب أسطورية لمحترف ثوري يتولي مسئولية طباعة كل مطبوعات التنظيم، يهرب، يعمل ليكسب ما يكفيه هو وأسرته وما يكفي لصناعة آلات الطباعة التي علم نفسه كيف يصنعها بيديه وما يكفي لشراء الأوراق والأحبار وكل تكاليف الاتصال، فقط هم يرسلون له المطلوب طباعته وهو يعيده إليهم مطبوعا بكميات كافية، علم نفسه الكتابة علي الآلة الكاتبة واخترع آلات رونيو مبسطة وشاركه في ذلك المهندس سمير توفيق وكان مسئول الاتصال به. ثم صنعا معا آلة طباعة واشتري صابر الحروف وعلم نفسه كيف يصفها وكيف يصدر مطبوعات سرية غاية في الأناقة، ست سنوات ونصف السنة من أبريل 1953 إلي ديسمبر 1959 قضاها صابر متنقلا هو وأسرته من قرية لقرية ومدينة لمدينة، في سمنود فتح محل سمكري بلدي وعاش هو وزوجته وأولاده يكسب ويصرف عليهم وعلي ابنه المهم وهو جهاز الطباعة، ثم انتقل لقرية أخري وثالثة ليعمل نجارا، ثم إلي الزقازيق ليستأجر منزلا من طابقين ولأن أخوته تجار ورق في الإسكندرية فقد اتخذ مهنة تجارة الورق غطاء له وكانت سيارة النقل تحضر محملة بكميات ورق كبيرة يتم تفريغها ثم إعادة كثير منها في ذات السيارة بعد احتجاز جزء للطباعة وجزء للبيع. وتحمل السيارة المغادرة المطبوعات الحزبية وأسأله كم مرة انتقلت بأسرتك ومطبعتك؟ فسرح طويلا.. وقال: كثير سمنود، ميت غمر - شبين الكوم - المحلة - السنبلاوين - طنطا - كفر الزيات - بني سويف - الواسطي - أسيوط - الزقازيق، أنا أقرر وأنتقل وأتصل بالرفاق ولا أحد يعرف مكاني علي الإطلاق، مرة واحدة استدعيت، كان العدوان الثلاثي يحتل بورسعيد والمطلوب مطبعة وكادر يعرف كيف يعمل عليها، تسلل وطبع الانتصار، وعندما خرج العدوان ظهر الهاربون جميعا إلا هو فهو لم يعد يثق في هذا الحليف المتقلب، فمن بورسعيد المحررة تسلل بمطبعته إلي مكان جديد، وفي 1959 يقبض عليه، جرحه وكبرياؤه يؤكدان في كل لقاء «لست المسئول عن القبض علي ولكن مسئول الاتصال أخطأ» وفي السجن تتفجر مواهب جديدة من عيدان الكبريت يصنع تماثيل جميلة ومن لباب العيش يصنع قطع شطرنج ومنازل وعرائس غاية في الرقة والجمال. وعندما يتأسس التجمع يأتي صابر زايد محملا بأعباء أعوام الهروب والزمان والشيخوخة والأولاد الذين كبروا بلا أصدقاء ولامعارف ولا أقارب.. ويبقي معنا حتي يرحل.