بروز الدين وعلاقته بالسياسة في الشرق الأوسط ليس حدثاً منعزلاً بلا جذور أو أبعاد سواء في التاريخ أو الجغرافيا ، ويمكن الإشارة بشكل عام إلي أن هذه الظاهرة كان لديها دائماً تياران رئيسان ، الأول هو التيار الأصولي ( أو السلفي أو الرجعي ) ، والثاني هو التيار التقدمي ( أو الوسطي أو المستنير ) ، وقد كانت هناك صراعات بين هذين التيارين في المناطق التي نشطت فيها هذه الظاهرة ، واختلفت معالم هذا الصراع عن ذلك الذي نشب بشكل او بآخر في مختلف بقاع العالم ، وأعني الصراع بين التيارالديني في عمومه وبين التيارالعلماني . ولقد اتاحت لي ظروف عملي في أمريكا اللاتينية أن أدرس عن قرب ظهور ونمو تيار ديني تقدمي بدأ في التصاعد في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، وحينها شعر الفاتيكان بقلق شديد حيال تفاقم ظاهرة حركة دينية جديدة في أمريكا اللاتينية تحت إسم " لاهوت التحرر " ، وتحرك البابا يوحنا بولس الثاني بسرعة لحصار هذه الحركة قبل استفحالها حيث كانت تهدد أكبر تجمع كاثوليكي في العالم ، وكان تخوف الفاتيكان له ما يبرره تاريخياً ، فقد عانت الكنيسة الكاثوليكية من إنشقاق البروتستانت علي يد مارتن لوثر ، وفي نفس الوقت كانت هناك مظاهر أخري تتجمع في أمريكا الوسطي حيث تحول عدد من أساقفة نيكاراجوا إلي وزراء في حكومة يسارية بعد إسقاط نظام الديكتاتور سوموزا . من المعروف تاريخياً أن الكنيسة الكاثوليكية كانت في بداية مرحلة إكتشاف أمريكا تمثل إحدي ثلاثة قوي تتحكم في المجتمعات الجديدة بالإضافة إلي المؤسسة العسكرية وكبار ملاك الأراضي من المستوطنين ، وقد وصف المؤرخ الإكوادوري جونزاليس سواريز الفتوحات في أمريكا فقال : " أن الرجل الأبيض أخضع سكان الأرض الأصليين عن طريق السيف والصليب " ، ومن خلال دراسة الأوضاع في تطورها التاريخي ، تبين " أن الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية لم تعترض علي الأوضاع الجائرة التي كان يعاني منها سكان الأرض الأصليين " . ففي الإطار النظري لفلسفة " الخلاص " كما تبنتها الكنيسة الكاثوليكية ، ركزت علي أن الخلاص هو التخلص من كل النزعات الدنيوية باعتبارها عديمة الجدوي ، مع التسليم الكامل بضرورة الإذعان لكافة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية ووجود الغني والفقير ، لأن تغييرها يفوق قدرة الإنسان ، وقد أسهم ذلك في شل حركة الطبقات المطحونة للمطالبة بحقوقها إنتظاراً وتوقعاً للجزاء العظيم الذي وعدت به الكنيسة ، ويلاحظ هنا أن تلك الفكرة كانت نقطة الإلتقاء بين السلطة السياسية والدينية . لقد كان الفقر المادي في هذا الإطار هو الطريق للإنبعاث الروحي علي أساس أن الفقر بمعناه الإقتصادي هوعدم المقدرة علي إشباع الحاجات الأساسية بعضها أو كلها ، فلا يجد الفقير سوي اللجوء إلي ما وراء الطبيعة هرباً من مشاكل الواقع التي تواجهه ، وهو في ذلك يلجأ إلي أحد طريقين ، فإما ينطوي في الأفكار المثالية التي تزهد في الدنيا ،وهو ما يتفق مع السلطة في شكلها الزماني أو الديني لأنه ينزع من الطبقات المطحونة شوكة المعارضة ، وينشر السلبية في مواجهة الواقع ، وإما يترجم المثاليات الدينية إلي ممارسة تواجه الواقع سعياً إلي تغييره وصولاً لمجتمع تتحقق فيه المساواة والعدالة الإجتماعية ، ولا شك أن هذا التغير يصطدم بالمعطيات الثابتة الجامدة في مختلف المجتمعات ، ولذلك كان اقترانه بالعنف سمة مميزة . وكان أول ظهور علني لهذا التيار أثناء زيارة البابا لكولومبيا عام 1968 حين فوجئ أثناء إجتماعه بأساقفة القارة أنهم يطالبون بشكل لم يسبق له مثيل ضرورة تحقيق العدالة الإجتماعية ، ثم برز دور القساوسة في نيكاراجوا حيث لعبوا دوراً كبيراً في ثورة الساندنيستا ، ووصل أربعة منهم إلي قمة السلطة وأعلنوا تشكيل ما أطلقوا عليه " حركة كنيسة الشعب " ، بل أنهم أثناء زيارة البابا عام 1983 لم يستقبلوه الإستقبال اللائق ، ثم بدأ بعض رجال الدين في القارة في التجرأ بانتقاد الفاتيكان علانية وخاصة اسقفية البرازيل حيث قال بعضهم علناً أن " البابا لا يفهم مشاكل العالم الثالث " !! . وهكذا تبلورت معالم حركة " لاهوت التحرر " التي كان من أبرز مفكريها الراهب البيرواني جوستافو جوتييرز ، والبرازيلي ليوناردو بوف ، وتصدي الفاتيكان لهذه الحركة في البداية بشكل قوي واعتبر أنها متأثرة بالماركسية ، وأنه لا يجوز لرجال الدين أن يقحموا أنفسهم في أعمال العنف التي أدت إلي إغتيال عدد كبير منهم، وفي سبتمبر 1984 أصدر الفاتيكان وثيقته الأولي حول " لاهوت التحرر " مفنداً بنقد شديد ما ورد في هذا اللاهوت من أفكار ، وتم استدعاء الراهب البرازيلي بوف إلي روما حيث تمت محاكمته ثم فرض عليه الصمت لمدة عام ، ثم بدأ الفاتيكان يعترف تدريجياً ببعض عناصر هذا اللاهوت الجديد . أن التحرر الذي حمله " لاهوت التحرر " لم يكن يعني الخروج من حالة " العبودية " بمعناها التاريخي إلي حالة " العتق " كما كتب الراهب البيرواني ، وإنما التخلص من الإستعباد الإقتصادي السياسي الإجتماعي الثقافي الذي يعاني منه سكان القارة للوصول إلي وضع جديد من التحرر في تلك المجالات ، وأن هذا نموذج للتحرر لا يوجد في الدول المتقدمة ولا في الدول الإشتراكية ، وقد اعتبر هذا اللاهوت أن " عملية التحرر " تشبه تدخل الرب إلي جانب شعب الله صاحب العهد القديم في مصر ، ويعتبر الكفاح من أجل التحرر في الأوقات الحالية بمثابة تدخل معاصر للرب كي يعبر بشعبه الجديد من العبودية إلي الأرض الموعودة " . وبناء علي هذا التفسير ، ذهب هذا الرأي إلي أن الأولوية في نشاط الكنائس يجب أن تكون لمظهر التدخل التاريخي للرب ، علي أساس أن وضع الفقر المدقع وانعدام العدالة هو " وضع خطيئة " ( إجتماعية وبنائية ) وضد المسيحية ، والخلاص في شكله المعاصر هو شكل ديناميكي متطور يتكيف وفقاً للمناخ الثقافي وطبيعة الأوضاع المادية للإنسان ، وقد تطورت هذه الأفكار إلي تأسيس ما أطلق عليه " مجتمعات القاعدة المسيحية " في أمريكا اللاتينية ، وذلك قبل ظهور حركة "القاعدة " الإسلامية فوق جبال أفغانستان بعدة سنوات .. من العدد المطبوع من العدد المطبوع