على مساحةٍ جغرافيةٍ يحاصرها الماءُ من جهاتٍ ثلاث، ويغسلها المطر الشتوي بسخاءٍ يفيض عن حاجتها للتطهر من أحذية المذنبين.. بدأت علاقتي العميقة بالماء، وبدأت خطواتي الأولى على درب الكتابة.. كنت كلما وليت وجهي شطر الشمال وجدت الأبيض المتوسط شيخًا غامضًا يختزن الكثير من أسرار اللغات الطيبة التي تبدو كقصيدةٍ ملغزةٍ لا تؤمن بغير التأويل. وكنت كلما وليت وجهي شطر الغرب وجدت النهر جالسًا قرب المصب كالسجين الذي يتحين فرصة الهروب كي يزف ماءه العذب قربانًا للبحر المالح، فيساقط من حلقي السؤال: ما الحكمة في أن نفتح أبواب المصبَّات المغلقة تاركين الماء العذب يرتمي في أحضان الماء المالح مع أن هناك قرى كاملةً تشتهي قطرة من الماء ولا تجدها؟. وكنت كلما وليت وجهي شطر الشرق وجدت البحيرة امرأةً تفتح حِجْرها القروي لحوار التعايش بين الماء المالح القادم من البحر والماء العذب القادم من النهر، فتهزمني جيوش بربرية من علامات التعجب والاستفهام. المفارقة العجيبة أن "السيد" الذي رأى الماء على بعد خطوتين من بيته، وامتلأ حلقه بثلاثة أنواع من الماء، وجد نفسه في العام 1994م، مجبرًا على السفر والإقامة في مدينة صحراوية لا يأتيها الماء إلا بكثرة الدعاء في صلوات الاستسقاء. هذه المفارقة العجيبة كانت كافيةً لأن يدرك المعنى الحقيقي للعطش، ويؤمن "السيد" الغريب أن الشعر "سيده"، وأن الكتابة سيفه الذي سيستعين به لاحقًا على كل مدلولات الفقد والغياب، فيهمسُ كلما حنَّ للماء قائلا: (في الليلِ يجري النهرُ تحتَ وسادتي وينامُ ملحُ البحرِ فوقَ عباءتي وتُطلُّ من حزنِ البحيرةِ غيمتي فأنا سليلُ الماءِ والموجِ الشَّقيْ وأنا الدَّليلُ على صلاةِ الأرضِ للغيمِ السماويِّ الذي تركَ الشتاءَ بلا وضوءٍ في الضُّحَى). أدرك "السيد" الغريب أن الكتابة هي سر الحياة في الممات، فكتب الشعر منتصرًا للحياة، وكتب النثر مهزومًا بالوجع: أعرف جيدًا أنني لن أموت سيموت فقط من كان عبئًا على الحياة وأنا.. لم أكن عبئًا عليها بدمي كتبتُ لأبقى بدمي انتصرتُ على فناء الجسد فإن هجرت روحي محرابها السري في بدني فتّشوا بين كتبي وأوراقي، فأنا أعرف جيدًا أنني سأموت وأنكم.. لن تتركوا اسمي فريسةً للغياب. ----------- النص| هاء الهزيمة كان الحدادُ خياركمْ لكنَّكمْ لم تفتحوا بابَ التحيَّةِ للعَلَمْ لم تسألوا لونَ البياضِ عن ارتباطهِ بالعَدَمْ لم تُدركوا أن الخليلَ بفأْسِهِ.. قَتَلَ الألوهةَ في الصنمْ أن الحدادَ هزيمةٌ تقْتاتُ من خُبْزِ البكاءْ أن البكاءَ يعودُ من ليلِ المقابرِ كاشفًا سرَّ الغيابْ أن الغيابَ عن الجنازةِ ليس إلا صرخةً ستقولُ للموتِ: انتصاركَ ليس أكثرَ من رثاءٍ قد يُصيبُ وقد يَخيبْ أنَّ انكسارَكَ لا يروقُ لمن أصابوا حتفهمْ والهاءُ في ليلِ الهزيمةِ نجمةٌ تُلْقي السلامَ على كلامِ العائدينَ من الحروبِ بلا غنائمَ أو غناءْ وأنا هُزِمْتُ.. أنا هُزِمْتُ وقد أتيتُ من المعاركِ خاسرًا سيفَ الخلافةِ لم يُصبْني من غناءِ الحربِ حرفٌ أو مَقَامْ فاهنأْ بصمتِكَ يا شقيقي في الكلامْ يا سيفيَ المصلوبَ في ليلِ المتاحفِ والقصورْ زمنُ الفتوحاتِ انتهى، مُذْ علَّقوكَ تميمةًفوقَ الجدارِ فكن جديرًا بالظلامِ وكُنْ رحيمًابالصدأْ من شيَّعَ الجثمانَ قد ضلَّ السبيلَ إلى السبيلْ والبئرُتقرأُ في كتابِ الملحِ تاريخَ الظمأْ البئرُ تقرأُ في الكتابِ ولن تبوحَ بمائها لقوافلِ الصحْراءِ كيْ تَرِثَ الطيورُ متاعَهَاعندَ الشروقْ وأنا هُزِمْتُ.. أنا هُزِمْتُ وشِعْرُكِ البدويُّ لم يغسلْ ثيابَ هزيمتي فتبرَّئي من كلِّ ما كتبتْ يداكِ على الصخورْ لا تكتبي شعراً جميلاً في مديحِ الفارسِ المهزومْ فأنا هُزِمْتُ.. أنا هُزِمْتُ وكلُّ أوسمتي القديمةُجُرِّدَتْ لا تكتبي شِعرَ المديحِ أوِ الغزلْ هاءُ الهزيمةِ جفَّفتْ قمحَ القُرى وهُمُو الذين تجاهلوا رفعَ التحيةَ للعلمْ كان الحدادُ خيارَهُمْ ولأنهمْ لم يقرأوا فكرَ ابن رشدْ أو يمنعوا "المنصورَ" عن حَرْقِ الكتبْ مات الحصان على مداخل قرطبة وأنا هُزمتُ أنا خَرَجْتُ أنا سَقَطْتُ كما سقوط الأندلسْ. -------------------------- * السيد الجزايرلي شاعر وكاتب صحفي أصدر سبعة كتب تتنوع بين الشعر والسينما والتوثيق الصحفي، منها: "سيرة العطش" ديوان شعر، "أبجدية الوجع" ديوان شعر من جزأين، "طوق الياسمين" حول التجربة الغنائية في شعر نزار قباني، "سفينة الأحلام الضائعة" سينمائي عن تجربة تايتنيك" والعرب الذين تجاهلهم الفيلم. الشهادة المنشورة في المشهد الأسبوعي الشهادة المنشورة في المشهد الأسبوعي بهية طلب http://almashhad.net/Articles/994541.aspx أحد عشر كوكبا يضيئون المشهد الشعري http://almashhad.net/Articles/994524.aspx أحمد حسن عبد الفضيل http://almashhad.net/Articles/994548.aspx أسامة حداد http://almashhad.net/Articles/994551.aspx أشرف البولاقي http://almashhad.net/Articles/994556.aspx