الشهادة دائما ما يتجلى مأزق تقديم شهادات أدبية تخص النوع الأدبي في سؤال النوع في ذاته بالدرجة الأولى، فالكتابة "مفهومية" كفعل في المقام الأول: يكتب الواحد منا ما يراه تحققا لمفهومه عن النوع الفني: قصة قصيرة، رواية، أو نص شعري. والمسألة المهمة فعلا هنا هي الانتباه الضروري والدائم لأن هذا المفهوم تجاه النوع متغير ودائم الظرفية، وهو متطور أيضا بالتراكم المعرفي والخبراتي. وبالتالي فهو، مفهومنا عن النوع الفني، في حالة سيولة دائمة، وهو الأساس بالطبع في فنية الفن، من جانب، وفي انفتاحه المطلق على الطروحات التي تحقق مفهوماته المتعددة. ولعلي عندما أحدد النوع في فن القصة القصيرة سيمكنني فقط رصد محددات أساسية أبحث عن وجودها في النص، أهمها الحبكة والسياق والإيقاع والتنوع الأسلوبي مع نوع من التجريد الفني الذي يناسب اتساع الأفق الدلالي للنص، وصحة تشاركه مع أكثر من متلق. علقت صديقة مرة على نص "تحدث الغائبين وتقسم حبوب الضغط" بتعبير "الست دي أمي"؛ وكانت تلك شهادة أعتز بها تجاه النص. غير أن تجريدية القصة القصيرة كوحدة فنية لا تمنع محاولات استخدام نصوص القصة القصيرة، أو حتى القصة القصيرة جدا، في أبنية فسيفسائية أكبر تحقق من خلالها احتمالات المتوالية والفضاء السرديين (فضلت الأخير مثالا في مجموعتي "صباح مناسب للقتل") لتأسيس ما قد نعتبره جداريات نصية لديها طموح في مقاربة فن الرواية ولو على مستوى الأثر أو المشهد الكلي (الفضاء). ويبقي الأهم في المسألة العناية باللغة كوسيلة أداء فنية، فهي ليست ناقلا للحدث ولا هي حاجز بلاغي أمام سيرورته، وإنما وسيلة أداء تتوسل كل طاقاتها الفنية لصالح العمل في ذاته. وأخيرا، لا يعني حرصنا على مسألة الإيقاع في السرد أن نحول السياقات إلى منحى بوليسي لنوفر التشويق، ولا ميلودرامي لاكتساب التعاطف. فالقصة القصيرة، قبل كل شيء، من الفنون التي لا تتغيا سوى نفسها، كقطعة فنية، في معظم الأحيان. النص أحلامٌ بيضاءُ.. رطبةٌ انطرفت عينه، فقالت عمَّتُهُ: "اقطروا له حليبا"، وقالت زوجة عمِّهِ: "انفخوها وخلاص". قالَ في نَفسِهِ: "لازم تحشر نفسها في كل حاجة"، وأغمضَ عينيه. قالت أمُّهُ: "الولد عينه احمرَّت"، فقالت الجدةُ: "سلمى تُرضِعُ". عندما وضَع رأسَهُ في حِجرِها كانَ قلبهُ يدق، وقالت: "أغمض عينيك". وغطَّ، ليلَتَها، في عتمةٍ بيضاءَ دافئةٍ، ورطبةٍ. بناتٌ صَغِيرَات البنتُ الصغيرةُ قالت: عِيبْ. لكنهما لما لعبا "عريس وعروسة" وافقت. والبنت الكبيرة فتّانة، قالت لأختها. والبنت الأكبر قالت: نلعب معًا. وكان صغيرًا، صغيرا جدا... ويرتعد. أَضَأنَا "كُلوبَّاتِ" الجَاز لما قَالوا لي: هَات "وَقِيد" مِن "الخَلَا" كَانت عَمَّتي في غُرفَتِهَا، أَخَذَت "الطّشت" و"البستلّة"، وأقفَلَت بَابَها، وَجدَّتي وَضَعَت الخَميرَة عَلى العصِيدةِ، وأُمِّي كانَت تُشَمِّر أَكمَامَهَا وهِي تَصِيحُ عَلَيَّ: لا تتأخر. سَاعَدَتني زَوجَةُ عَمِّي في وَضعِ "الشُّوال" عَلى ظَهرِ الحِمَار، ولما وَقَعَ وأَنا أُحَاوِلُ الرّكُوب جَلَسَت عَلى الأَرضِ تَضحَكُ، لكِنَّني رَكِبتُ في المرَّةِ الثَّانِيَةِ، ورَكَلتُ بَطنَ الحمارِ بِكعبي. قَالَت: لَو وَقَعتَ أَو وَقَع الشّوال لا تَخَف، وتَابَعَت: الحمارُ يعرِفُ السِّكَّة. لم أَملِك سِوى جَرِّ الشّوال وحدي عَلى الطَّرِيقِ، وأَنَا أُفَكِّر أَن جَدَّتي سَوفَ تَغضَبُ لما يخمرُ العِيش "بزيادة"، لكِنَّنِي لما وَصَلتُ كانُوا كُلُّهُم في غُرفَةِ عَمَّتي، وكانَ البابُ مكسورًا. ولما رَميتُ الشّوال ودَخَلتُ إلى الغرفةِ كانت عَمَّتِي تبتسمُ نائمةً في سَريرِها، لَكنَّهُم أَخرَجُوني بِسُرعَةٍ، وكَانت جدَّتي تَبكِي. في الليل رُحنا لِلمَقبرَةِ وأَضَأنَا "كلوبَّات" الجازِ، وفي الصَّباحِ قالوا لي: هات "وقيد"، وكان ناسٌ كثيرون يأتون إلى بيتنا، وكنتُ أسألُ نفسي: لماذا لم تَبِت عَمَّتي مَعَنَا، في الليلة الماضية؟. من العدد المطبوع من العدد المطبوع