ربما أخطر ما يطرحه الإخوان، حاليا، عبر القنوات الموالية لهم في تركيا، هو اللعب على ورقة الفتنة الطائفية، بعد أن بات حديث المهادنة وإدعاء الرغبة في لم الشمل وتجميع الصفوف بين أبناء الوطن لمواجهة عودة النظام القديم، غير ذي جدوى، ولم يصدقهم أحد، خاصة مع الاصرار على التمسك بمطالب تصب فقط في مصالحهم الخاصة، واستعادة ما فقدوه، وليس تحقيق أهداف انتفاضة يناير وشعاراتها التي تعني مصلحة الوطن والمواطن دون تمييز ولا تمايز. فمع خسارة الرهان على اجتذاب فئات من خارج معسكر القوى الدينية، وضياع فرصة تلو فرصة لتحسين صورتهم المشوهة أمام المناهضين لهم، لم يعد أمامهم إلا محاولة مخاطبة انصارهم بقناعات مترسخة لديهم حول رفض الآخر، وتعبئتهم بخطاب طائفي عنصري، وتأجيج المشاعر باتجاه "المظلومية" و"المؤامرة على الإسلام" و"العداء للشريعة"، وأن ما جرى في 30 يونيو وما قبله وما تلاه، ما هو إلا تآمر قام بتمويله رجال الاعمال المسيحيين بقيادة سويراس، ودعم من المؤسسة الكنسية المتحالفة مع فلول نظام مبارك. والأكثر من هذا، الذهاب إلى أن المسيحيين والكنيسة هما من يحكمان مصر فعليا، وكل المؤسسات بما فيها الرئاسة والجيش تخضع لهما، وأنهما يمتلكان ما لا يحق للمسلمين امتلاكه، ويتعاملان أنهم أصحاب البلد، وغيرهم شغيلة عندهم رغم أنهم أقلية، كما أن البيزنس الخاص بهما لا يدفعون ضرائب عليه، ويحصلان على امتيازات مفتوحة من الحكومة، فضلا عن الدعم الخارجي. ربما تكون بعض هذه المعطيات سليمة، لكن يتم توظيفها في سياق آخر غير سليم، وتستهدف الوصول لنتائج كارثية تحض على الفتنة، وتقليب أبناء الشعب على بعضه البعض، ومزيد من تكريس الانقسام والاستقطاب المجتمعيين، وكل هذا لجهة تقوية تماسك المعسكر الديني المتخلخل، ومده بحوافز تحرضه على الاستمرارية، أكثر من مفردات لا يستوعبها مثل الديمقراطية والثورية . نعم، ثمة دور متنام للمؤسسة الكنسية في العملية السياسية، رغم الإدعاء بأننا دولة مدنية، لكن مثل هذا الدور يأتي مثيله من الأزهر ورجال الدين الإسلامي على اختلاف توصيفهم كذلك، وكنوع من الاستحضار من جانب السلطة لدعم شرعيتها وتوظيف ورقة الدين في الصراع السياسي مع الإخوان، أو للتأثير على الجماهير في إتجاهات معينة، خاصة الأقل ثقافة والأفقر في الوعي والقيم الديمقراطية الصحيحة، والتي يفعل الخطاب الديني عندها فعله، سواء كانت مسلمة أو مسيحية. وإن كان رجال الأعمال المسيحيين قد ناهضوا حكم الإخوان وقاموا بتمويل أنشطة سياسية وإعلامية تضرب في شرعية الرئيس الإخواني وتنال من سلطة الجماعة، وتحالفوا مع رجال مبارك ودعموا الجنرالات، فمثلهم فعلوا رجال أعمال مسلمون، بل الإخوان أنفسهم في مناسبات سابقة، حيث أن القضية ليست دينية ولا طائفية بقدر ما هي حماية لشبكة مصالح هم جزء منها، وحفاظا على مكتسبات، وتحالف رأس المال والسلطة الممتد من سنوات بعيدة، والذي لم ينجح الإخوان في صنع مثله، أو لم يسعفهم الوقت، وكما نعلم جميعا ف"البيزنس لا دين له" ولا يعرف العواطف أو الانتماءات، وعابر حتى للأوطان. وبالمناسبة، إن كان المسيحيون شرا مطلقا و"شيطانا أكبر" لماذا طوال الوقت كان الإخوان يحرصون على أن يكونوا في الصورة إلى جانبهم، قبل وبعد الحكم، فاحد مستشاري المرشد كان مسيحيا، ونائب رئيس الحزب الإخواني كان مسيحيا، وفريق مرسي الرئاسي وحكومته كانا يضمان مسيحيين، وكانت توجه دعوات لبعضهم للمشاركة فيما يسمى ب"الحوار الوطني"، وحتى بعد إزاحتهم من السلطة سعوا لاستقطاب بعض المسيحيين، فيما عرف ب"اقباط ضد الانقلاب" أو ضم بعض المسيحيين ضمن قيادات ما يعرف ب" المجلس الثوري المصري". فمثلما سعى نظام مبارك لإستغلال "الورقة المسيحية" في تجميل صورته أمام العالم، ونفي وجود اضطهاد أو إنتقاص من حقوق المسيحيين، كما يروج "اقباط المهجر"، وأيضا في اللعب على الورقة الطائفية أحيانا بمنطق "فرق تسد"، سعى الإخوان للعب ذات الدور وبنفس الأهداف التجميلية أو التحريضية في توقيت آخر، حسبما تقتضي المصلحة الانتهازية. ولا لوم على المسيحيين، إذن، إن كانوا يستثمرون الصراعات لمكاسب تخصهم، خاصة أن النظام والمعارضة تتعامل معهم كأقلية لها رأس واحد يمثله البابا، وتريد أن تتملقهم أو توظفهم بأى ثمن، مع افتقاد مبدأ المواطنة فعليا، وتمحور المصريين حول الهويات الفرعية والانتماءات الأولية الدينية أو القبلية أو الجهوية، والاستقواء بمن هو أقوى أو بالضغوط لنيل الحقوق. وإن كان ثمة فساد وانتهازية، فهي، بلا شك، عند كل القطاعات والخلفيات السياسية والدينية، لا فرق بين مسلم ومسيحي، متدين أو علماني، ليبرالي أو يساري أو إسلامي. وفي كل المواقف، نجد أن نظام مبارك والإخوان وجهان لعملة واحدة رديئة، لا يعترف أي منهما بالاخطاء، وليس لديهما فضيلة المراجعة والنقد الذاتي، والاعتذار عما اقترفته يداهما من خطايا في حق الوطن والشعب، وبدلا من الحرص على تماسك المجتمع ووحدة أبنائه يعمل كل منهما على تكريس مناخ الكراهية والعدائية وبث سموم التحريض. مصر الجديدة يا سادة التي نحلم بها ونريدها، ومن أجلها خرجنا في يناير 2011 وقدمنا تضحيات غالية، فضلا على رفض حكم الإخوان الإقصائي، لا تعرف التفريق على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة الاجتماعية. مصر الجديدة هي دولة مدنية لا دور فيها للبابا أو شيخ الأزهر، ولا يوجد بها تحالف فاسد بين السلطة ورأس المال أيا ما كان مسيحيا أو إسلاميا أو ملحدا. مصر الجديدة تكرس لمفهوم المواطنة ودولة المؤسسات والقانون التي تستمتد شرعيتها من الدستور ومن الرضاء الشعبي العام، وتتأسس على التشاركية وتكافؤ الفرص والعدل الإجتماعي، وليست تلك التي تُحكم بالخوف والقمع وبقوة السلاح أو بمرجعية دينية وتحالفات مشبوهة وإرادات خارجية واستغلال. ----------- Email:[email protected] محمود عبد الرحيم محمود عبد الرحيم