"كل إنسان ناجح في مجاله، وراءه أستاذ دفعه لهذا النجاح، هل لكِ مثل هذا الأستاذ؟" هكذا سألني البروفيسور الهولندي بعدما استمع إلى البحث الذي قدمته منذ أيام عن "تحديات الرعاية الصحية لأطفال الشوارع في مصر" ضمن مؤتمر جامعة VUبامستردام. نعم. في حياتي أستاذ شكّل جزء من تكويني المهني والنفسي. ليس مجرد أستاذ لعلم النفس المرضي والتحليل النفسي، بل عالماً، يحمل على كتفيه تاريخا طويلا من التمرد على واقع مشوه، ونضالا مستمرا للابقاء على قيم أوشكت على الاختفاء. يخفي وراء صرامته، حنان جارف ورهافة حس وقلب نبضه العطاء بلا حدود. كنت في السنة الأولى في قسم علم النفس كلية الآداب جامعة المنصورة، حين التقيت، "حسين عبد القادر" لأول مرة. أتذكر جيدا شعوري بالاحباط والتوتر في بداية المحاضرات. أستاذ له من الهيبة ما يقصم بها ظهر الاستهتار، كان يأتينا من القاهرة يومي الثلاثاء والأربعاء من كل أسبوع ومع ذلك لا يتأخر أبدا عن موعده. يدخل جادا متحمسا، يده اليمنى تفتح باب المدرج، والأخرى تغلقه خلفه بسرعة حتى لا يسمح لأي طالب بدخول المحاضرة بعده. بعكس كل الأساتذة، لم يقرر علينا كتاباً جامعيا (وأظنها مازالت عادته). يشرح باستفاضة ويطلب منا أن نذهب للمكتبة لتجميع المادة العلمية بعد أن يملي علينا عددا من المراجع والكتب. كنت أشعر بالذهول حين يصف الكتاب تفصيليا: اسم مؤلفه، اسم دار النشر، طبعاته المختلفة إن وجدت، شكل الغلاف، وأرقام الصفحات التي تهمنا فيه. لغته العربية الفصيحة وثقافته العميقة بكل العلوم تقريبا، كانت تربكني وتجعلني ألهث عقليا وراء مفرداته وعباراته الجديدة عليّ. في السنة الثالثة، طلب مني أن أشرح درساً في التحليل النفسي عن "حالة دورا" وشعرت بالقلق الشديد وأنا أجلس بجواره لكن طاقته الإيجابية كانت تحاوطني. انتهيت من شرحي، بدأ في ملاحظاته على ما قلته، أتذكر منها: "لديكِ حساً اكلينيكياً مبشرا يحتاج إلى ثقله بقراءة معمقة". في السنة الرابعة، كان مطلوبا من كل طالب بحثا ميدانيا ومقابلة حالات مرضية واقعية. أخترت أن أطبق على مريضي بعض الاختبارات من ضمنها اختبار لم أدرسه حتى هذا الوقت، اسمه HTPوفيه أطلب من المريض رسم شجرة ومنزل وشخص، وأقوم بتحليلهم وفقا لمستدعياته ومعلوماتي التي جمعتها عن تاريخه الشخصي. حين جاء دوري في المناقشة الشفوية لبحثي، كانت اللجنة مكونة من ثلاثة دكاترة، من بينهم أستاذي وقد نبههم لهذه النقطة وهو يداري في عينيه نظرة فخر لم يبح بها أبدا بشكل مباشر طوال فترة الدراسة. أخذت عن بحثي تقدير "امتياز" وربما هذه كانت أول مرة، لأن من المعروف عنه أنه لا يمنح هذا التقدير إلا نادرا جدا. وفي العام نفسه أهداني كتابا ل "دانيل لاجاش" مزيناً باهداء بخط يده. تشرفت بأن يكون هو مشرفي على رسالة الماجستير عن "البغايا القاصرات". كان يراجع بدقة شديدة كل خطوات البحث من الإطار النظري إلى الترجمة والصياغة اللغوية. أثناء المناقشة كان أكثر قسوة في أسئلته من باقي اللجنة، رغم أن الشائع هو العكس. فاجأني وقتها بسلوك، لا أعتقد أنه يصدر من أستاذ غيره: كان حاملا معه بعض الأوراق بخط يدي لترجمة كتاب "سيد البنائين" وأشياء أخرى كان قد كلفني بها أثناء المرحلة الجامعية، عرضها أمام الجميع استشهادا بها على دأبي وحرصي على التعلم. اعتبرتُ هذا التصرف بمثابة درجة علمية رفيعة منحها لي "مُعلم" لا يعرف طريق المجاملة خصوصا في العلم. هذا الرجل النبيل، باتساقه مع نفسه ورضاه التام بأن يدفع ثمن أنه لم يكن يوماً من "شلة المحاسيب" أو "خافضي الرؤس"، عاش شريفا (منحه الله الصحة وطول العمر) مكتفياً بكونه "أستاذا" يربي العلم داخلنا مثل نبتة جميلة، ويهيؤنا لخوض الحياة بشرف واحترام. لم يسع إلى منصب يجبره على مواقف لا تتسق وثورته الدائمة على أوضاع مريرة. قال لي ذات مرة: الكرسي لا يدوم إلا بالطاعة لأوامره. حسين عبد القادر، الأب الحنون الذي لم يبخل يوما بماله أو جهده أو استقبالنا في بيته، لم يقبل يوما مني أو من غيري هدية لأي سبب. كان يردد دائما: ما بيني وبينكم أن أعطيكم فقط حتى يشتد عودكم. أتذكر يوما طلب مني تصوير بعض الأوراق، وكان الثمن زهيدا جدا، أقل من جنيه مصري، أصرّ أن يدفع المبلغ ولم يرق قلبه لتوسلاتي له، كما لم يضعفه خجلي من قبل حين ردني بهدية كنت قد أحضرتها له حين كان مريضا (عافاه الله). أشعر بعجز اللغة وضآلة الكلمات كلما حاولت التعبير عن مشاعري تجاه هذا العالِم الأجلّ. لا أدري هل يكفي أن يعرف أنني سأظل ممتنة ومدينة له بنصف ما أحققه من نجاح، على الأقل؟ وأي خطوة أمشيها في طريقي المهني، له فيها نصيب، وأي تقدير علمي أناله، هو شريك فيه. لم أقل للبروفيسور الهولندي أنه قد تخذلنا دولة بأكملها، بنظامها الفاسد أو حكوماتها الفاشلة وقوانينها الفارغة التي لا تحمي حقوقنا من النهب .. وينصفنا قليل جدا من ال"بني آدمين" الذين احتفظوا بنفوسهم نضرة وأرواحهم صافية وشربوا من نبع العلم والأخلاق وفاضوا بهما علينا. الوفاء العلمي، أن نقاوم "أساتذة" العتمة، محتكري الكتب الفسفورية والدروس الخصوصية واستغلال الطلبة ورواد "البزنس الأكاديمي" وحاشية النظام وعديمي الضمير ومنتهكي الحقوق، أو على الأقل نعاقبهم بأن نسقطهم من ذاكرتنا .. ونستبقي فقط أساتذة النور. حسين عبد القادر، سلام الله عليك .. ومحبة مني. المشهد .. لا سقف للحرية المشهد .. لا سقف للحرية