فارق كبير بين الذكرى الرائعة من ناحية، وكتابة تاريخ مختلف من ناحية أخرى. الأول حدث عارض مؤقت في حياة الأمة، يسطع في سمائها كأنه شهاب، ثم يخبو، تاركاً وراءه ذكريات مجيدة، يتذكرها من عاصروه أو حتى من صنعوه بكثير من الفخر وأكثر من الكثير من الحنين، وكلما ازدادت ظلمة أيامهم ازدادوا حنيناً إلى ذلك الشهاب الخاطف، الذي تألق وسطع للحظات ثم انطفأ. أما الثاني فأمر مختلف تماماً، إنه انعطافة كبرى في مسيرة الوطن وفي مصيره، إنه حدث استثنائي نعم، لكنه ذلك الاستثناء الذي يكسر كل القواعد الرتيبة الفاسدة ليضع قواعده هو، الاستثناء الذي يستأصل الفساد من جذوره، ليتيح لأشجار الكرامة والاستقامة أن تنبت وأن تكبر وأن تكسو الكون بخضرتها وروعتها ونقائها الرائع، كتابة التاريخ المختلف تجعل من الحدث الكبير بداية لأحداث تتوالى وتتراكم مسجلة تاريخاً مغايراً ونهجاً حياتياً مخالفاً للسابق، ولا ترضى بأن يتحول هذا الحدث الكبير إلى بداية ونهاية في الوقت نفسه. لا أعتقد أني بحاجة إلى أن أذكر السبب الذي دعاني إلى التوقف أمام هذه التفرقة في هذا الوقت، فالذي نراه جميعاً يوحي بحاجة عميقة إلى استحضار هذه التفرقة بوضوح وحسم وسطوع أيضاً، نعم هناك كثيرون أصبحوا يتعاملون مع الثورة المصرية باعتبارها حدثاً مجيداً مر في تاريخنا الحديث، وكأنه ذكرى عابرة، فيعلنون اعتزازهم بالثورة وتمجيدهم لشهدائها، بل وحنينهم إلى أيامها الثمانية عشرة الرائعة، لكنهم سرعان ما يكملون حديثهم بعبارات مختلفة مؤداها واحد وهو: "لكن الحياة ينبغي أن تعود إلى طبيعتها". وأعتقد أن هذه هي أكبر إساءة يمكن توجيهها للثورة المصرية، بل لكل الثورات في العالم، فالثورة لم تقم إلا لتمنع الحياة من أن تعود إلى طبيعتها التي كانت، بل لكي تبدأ طبيعة أخرى مخالفة، الثورات تقوم؛ لأن طبيعة الحياة السائدة طبيعة فاسدة لابد من نسفها لبناء طبيعة حياتية جديدة لائقة بالمجتمع الذي يثور. الثورة ليست بطولة في كرة القدم نحصل عليها، فتلهب مشاعرنا، وتترك في أنفسنا ذكريات لا تمحى. الثورة ليست أزمة سياسية نبلي فيها بلاء حسناً، ثم تمضي الأزمة، وتخلف وراءها الذكريات التي لا تُنسى. الثورة ليست ذكرى عابرة، ولا شهاباً خاطفاً سطع في سماء الوطن ثم انطفأ، ولا أظن أن المصريين الشرفاء يمكن أن يسمحوا لها بأن تتحول إلى ذلك. فيا أيها الممجدون للثورة المصرية باعتبارها ذكرى رائعة، أفيقوا واعلموا أنها ثورة حقيقية جاءت لكي تكتب للوطن تاريخاً جديداً مختلفاً، وأنها –لابد- بالغة مداها، وواصلة إلى ما تصبو إليه.