في أول سابقة في تاريخ العالم كله وليس في مصر تحكم محكمة مصرية بالإعدام علي أكثر من "نصف ألف متهم".. تأمل الرقم جيدا ً 528 متهما ً وهم كل المتهمين الذين حوكموا أمام محكمة جنايات المنيا بتهمة حرق قسم مطاي وقتل نائب مأمور القسم وسحل أحد ضباطه. لقد كانت الجريمة بشعة حقا ً والفيديو المصور لها يخلو من الإنسانية والرجولة معا ويقتل فيها أبرياء لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بفض رابعة.. وذلك بطريقة "الثأر الجاهلية".. وزاد الطين بلة ما أعقب ذلك من إهانة لجثة نائب المأمور وعدم احترام أدمية الضابط الذي يدين بنفس الدين ويتوجه إلي نفس القبلة . ولكن بشاعة القضية لا تبرر هذا الحكم القاسي جدا ًالذي لم يسبق له مثيل في التاريخ كله .. فالقاضي عدل وميزان وحكم بين الناس ولا ينبغي أن تثور عاطفته فلا يفرق بين من شارك حقا ً في الجريمة ومن تأملها أو نظر إليها أو قبض عليه في مكان الأحداث ولم يشارك وقتها في أي شيء أو أصيب بطلق ناري ولم يشارك في الجرم .. أو أضيف إلي قرار الاتهام عن طريق الخطأ. فهل يعقل أن يشارك أكثر من نصف ألف في قتل شخص وسحل آخر .. وهل ستكون مشاركتهم بنفس الطريقة والفعل حتى يتساووا في الحكم ؟ وهل كانت الشرطة والنيابة دقيقة جدا ً في إحضار كل المتهمين بحيث يأخذوا حكما ً واحدا ً هو أقصى وأقسى حكم . وللدقة والأمانة العلمية وأنا حقوقي أيضا ً أود أن أسرد أهم الملاحظات علي هذا الحكم الغريب والعجيب:- أولا ً: هذا الحكم سيدخل موسوعة جنيس للأحكام القاسية.. إذ أن أكبر حكم بالإعدام صدر في بنجلاديش لإعدام 121 متهما ً .. وأكبر حكم إعدام صدر في مصر قضى بإعدام 21 متهما ً في نزاع مسلح علي أرض بوادي النطرون. ثانيا ً: هذا الحكم القاسي جدا ً لم يصدر له مثيل في الأحكام السياسية أو علي الإسلاميين في التاريخ المصري الحديث ولم يحدث في عهد عبد الناصر أو السادات أو مبارك . فكل المحاكم العسكرية في عهد عبد الناصر كله حكمت علي 12 إسلاميا ً بالإعدام 6 منهم عام 1954 و6 منهم عام 1965 وتم تخفيف الحكم عن 4 منهم عام 1965 وأعدم الباقون.. أي أن جملة من أعدم من الإخوان في عهد ناصر كان 8 . وفي عهد السادات أعدم 6 من التكفير والهجرة الذين خطفوا وقتلوا الشيخ الذهبي.. وعلي رأسهم شكري مصطفى .. وكذلك أعدم 2 من جماعة الفنية العسكرية وتم التخفيف عن 1 هو صالح سرية . أما المحكمة العسكرية التي حاكمت قتلة الرئيس السادات فحكمت بالإعدام علي 5 منهم 4 منفذين وخامس هو المخطط للحادث . أما محاكم أمن الدولة العليا طوارئ في عهد مبارك فلم تحكم أي محكمة منها علي أكثر من 6 إعدام . أما المحاكم العسكرية في عهد مبارك فأكثرها شدة حكم علي 9 بالإعدام كان 8 منهم غيابي وواحد حاضر نفذ فيه الحكم . وقد وصلت أحكام الإعدام في عهد مبارك علي أبناء الجماعة الإسلامية والجهاد معا ً قرابة 90 شخصا ً .. وهناك أحكام إعدام لم ينفذها مبارك بعد المبادرة وظلت علي قيد الحياة حتى خرجت من السجون بعد ثورة 25 يناير ثالثا ً: هذا الحكم يفتقر إلي أدنى ضمانات العدالة فلم تسمع المحكمة للشهود ولم تفض الأحراز ولم تستمع لكل المحامين ولم تدخل باقي المحامين إلي الجلسة ومنعت بعض المتهمين من الدخول إلي القاعة .. ولم يناقش الدفاع مرافعة النيابة أو يردوا عليها. رابعا ً: كيف يستطيع قاضي قراءة ألف صفحة علي الأقل في يومين فقط .. ويتفحص دفوع المحامين ويقارن بين مواقف المتهمين ومقدار مشاركتهم من عدمها في الجريمة خامسا ً: الحكم بالإعدام علي أكثر من 300 شخص غيابيا سيحول هؤلاء إلي قنابل موقوتة يائسة محبطة لا تفكر إلا في الموت الذي سيطالها إن شنقا أو بالتفجير والتدمير .. وهي لن تستسلم أبدا ً .. وقد تهرب أو تشارك في مجموعات التكفير والتفجير ليس رغبة في ذلك ولكن لأن القاضي دفعها لهذا الأمر دفعا ً. سادسا ً: هذا الحكم حول المنظمات الحقوقية المصرية من منظمات تدافع عن النظام الحالي إلي مرحلة الانتقاد والعداء والمباشر للنظام والتعاطف مع الإخوان لأن هذا الحكم لن يستطيع أحد الدفاع عنه أو تمريره. سابعا ً: هذا الحكم سيؤدي إلي الانشقاق الثاني في الصف الثوري بعد الانشقاق الأول الذي أحدثه قانون التظاهر.. وكلا الأمرين ليس له مبرر أن يخرج بهذه الطريقة . ثامنا ً: هذا الحكم يمثل ضربة قاصمة لمنظومة العدالة الجنائية والقضائية في مصر .. وتجعل دون أن تدري القضاء طرفا ً في الصراع الدائر الآن في مصر بدلا من أن يكون حكما ً بينهم وفاصلا ً بالحق والعدل بين الخصوم .. والقاضي لابد أن يكون فوق الخصام السياسي ولا يتأثر ببشاعة الجريمة .. فليس المطلوب منه الثأر من فصيل ولكن القصاص ممن أجرم وتبرئة البريء. تاسعا ً: هذا الحكم لن ينفذ لاعتبارات قضائية كثيرة منها النقض وغيره .. إذا ً العبرة منه الردع .. ولا أظنه سيحققه بهذه الطريقة التي ستولد عدائيات كثيرة للدولة والنظام والقضاء نفسه. عاشرا ً: هذا الحكم سيعطي مبررا ً للثأر والتكفير لدى مجموعات تكفيرية وتفجيرية تنتظر مثل هذه الأخطاء الفادحة لتعلم أجيالا ً كاملة فكرتي التكفير والتفجير .. وقد يزيد هذا الحكم من موجات التكفير أو التفجير أو الاغتيالات .. وقد يعيد منظومة استهداف القضاة والتي بدأت قديما ً بمحاولة اغتيال القاضي الخازندار في نهاية الأربعينات فالأجواء هي ذات الأجواء .. بل أسوأ. الحادي عشر: هذا الحكم سيحرج مفتي مصر الشيخ د/ شوقي علام وسيجعل مؤسسة الإفتاء كلها بل والمؤسسة الدينية في حرج من أمرها .. فهي لن تبيع دينها بالموافقة علي هذا الحكم المعيب والعجيب.. ولن تجامل الدولة والقضاء علي حساب شرفها وسمعتها ودينها .. وقد يكون هذا الحكم بداية للاصطدام بين مؤسستي الدين والقضاء .. وسيجعل هناك تفكير جديد في مسألة استشارة المفتي دون الأخذ برأيه إلزاما ً مما يضره أكثر مما يفيده في مثل هذه الحالات.. وقد حكمت المحاكم المصرية الجنائية والسياسية بالآلاف من أحكام الإعدام في كل العصور.. فوافق المفتون عليها كلها عدا 21 حكما ً اعترضوا عليها .. وكانت كلها في المعقول .. أما أكثر من "نصف ألف إعدام" فهذه مأساة وملهاة في حد ذاتها. الثاني عشر : هذا الحكم الغريب أحرج رئيس مصر في مؤتمر القمة وأساء إليه وأحبط مشروعه لمقاومة الإرهاب الذي يريد تسويقه بين الدول العربية التي رأت عينة من أحكام القضاء في بلده.. وفي الحقيقة فإن الحكم افتقر للحس السياسي تماما ً .. وكأن المحكمة في جزيرة منعزلة عن العالم. الثالث عشر: هذا الحكم أعطى للإخوان وحلفائهم دعاية مجانية ضد خصومهم في العالم كله.. وخاصة الغرب وأوربا التي ترفض أحكام الإعدام.. وستعطي اللجوء السياسي لكل الذين نالهم هذا الحكم . الرابع عشر: لم يراع هذا الحكم طبيعة أهل الصعيد ومنطق الثأر عندهم .. فكيف يقبلون أن يعدم أكثر من" نصف ألف" من أبنائهم دون أن يكون لهم رد فعل قاسي وثأري جدا .. وعموما ً هذا الحكم أضاف أكثر من ألف أسرة إلي صفوف المعارضة دون أدنى حاجة لذلك. الخامس عشر: هذا الحكم ولد أعباء ً أمنية فظيعة على جهاز الأمن وخاصة في الصعيد .. فلابد من سهر الأمن ليل نهار لتأمين كل شيء بدء ً من الكنائس والأديرة وانتهاء ً بالمدارس القبطية والعامة والجامعات ومراكز الشرطة وخاصة في القرى وهذا صعب جدا ً . والخلاصة أن هذا الحكم القاسي والغير موضوعي والغريب قد يكلف الدولة الكثير والكثير من الأعباء دون أن يفيدها شيئا ً فهو سينقضي حتما ً .. ولكن بعد أن تقع أعراضه الجانبية علي جسد الدولة المنهك .. ويبدوا أن المحكمة قد نسيت أن القضاء جزء من المجتمع .. وأن كل هذه الآثار السلبية علي المجتمع تعني أن الحكم غابت عنه العدالة القانونية وضماناتها وغابت عنه كذلك المواءمة السياسية وحساب كلفة هذا الحكم علي المجتمع المصري المنهك الجسد والغير مهيأ لضربات جديدة غير محسوبة .