يوافق غدا الخميس 9 يناير ذكرى مرور 54 عاما على وضع حجر الأساس لبناء السد العالي حيث عاشت مصر لحظات تاريخية بعد أن أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1960 بداية البناء وتدفق المياه بين شقي الجبل، فالسد العالي يمثل أعظم ملحمة للإرادة المصرية في الصمود والتصدي، وكما قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خطابه الشهير أمام الآلاف من جماهير الشعب في هذه المناسبة /أن هذا السد تذكار لانتصاركم على كل إعتداء وعلى كل الصعوبات، هنا صورة رائعة لأحلامكم صنعها العمل الذي يحرك الجبال ويخضع الطبيعة لإرادة الإنسان مهما دفع من الدم والعرق/. والسد العالي من أعظم 10 مشاريع هندسية عملاقة في القرن العشرين من خلال دوره في توفير رصيد إستراتيجي من المياه، والحماية من خطر الفيضان والجفاف، والتوسع في الزراعة أفقيا ورأسيا ، وإنتاج كهرباء أكثر من تلك المنتجة من خزان أسوان كما تم إختياره كأفضل مشروع بنية أساسية في العالم في القرن العشرين. ارتبط السد العالي ذلك المشروع العملاق بمشروع مصر القومى الذي تكاتفت حوله الإرادة الوطنية وقاده في ذلك الوقت جمال عبد الناصر وخاض من أجله مواجهات سياسية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية دون أن يترك لها مجالا للمساومة حتى في ظل ظروف التمويل العصيبة. وسيظل السد العالي تتويجا للجهد العلمي والعملي المنظم والدؤوب منذ البدء في إنشائه ومراحل تنفيذه والتغلب على كل المعوقات التي واجهته، ورمزا لطاقة الأمة شاهدا على العطاء، ملحمة للتحدي والإصرار وسيبقى خالدا يرمز لمصر ونمائها، وتم الإنتهاء من المرحلة الأولى لبناء السد في 16 مايو 1964، وأكتمل بناؤه عام 1968 ولكنه أفتتح رسميا في 15 يناير 1971. ونجاح مشروع بناء السد العالي يرجع إلى أن أحلام ورؤى جيل ثورة 23 يوليو 1952 كانت تنحاز للطبقة الفقيرة محدودة الدخل وكانت تسعى دائما إلى رفع المستوى المعيشي للفلاح وتنمية قدرات مصر الزراعية والصناعية، وبدأت الدولة في التفكير في مشروع السد وبقى أمام التنفيذ وجود التمويل اللازم لأن إمكاناتها في ذلك الوقت لم تكن تكفى لتوفير تكاليف المشروع ولجأت للبنك الدولي للحصول على قرض لاستخدامه في أتمام المشروع، وعرضت الولاياتالمتحدة أن تمول هذا المشروع بجانب البنك الدولي ووجدت فيها فرصة قوية لتنافس الاتحاد السوفيتي الذي تنامى دوره في ذلك الوقت, ولكن بسبب توجه مصر نحو القومية العربية وسياسة عدم الانحياز وحصولها على صفقة سلاح من الكتلة الشرقية مما أدى بهم للمماطلة في تمويل المشروع إلا بشروط تحد من تنامي دور مصر وعبد الناصر في المنطقة منها تحويل ثلث الدخل القومى لصالح مشروع السد، فرض رقابة على المشاريع الاقتصادية، وضع ضوابط للحد من الأنفاق والتضخم الحكومي، لا تقبل قروضا خارجية إلا بموافقة البنك الدولي وكلها شروط كانت كفيلة بفرض احتلال إقتصادي على مصر. وتحت تأثير هذه الضغوط رفضت مصر وسحب البنك الدولي العرض لتمويل المشروع، ولم يكن ذلك مثار مفاجأة لمصر بقدر ما أثارته الطريقة والملابسات التي تم بها أتخاذ القرار، والأسلوب الذي أتبع لإبلاغ مصر وهو الأمر الذي لم يقبله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكان الرد المناسب عليه قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، وإستخدام إيراد القناة لتوفير التمويل اللازم لإنطلاق المشروع بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي مما أشعل غضب بريطانيا المسيطرة على القناة وفرنسا وانضمت إسرائيل حلما في إحتلال سيناء وكان العدوان الثلاثي في أكتوبر 1956. إن تنفيذ مثل هذا المشروع العملاق كان يحتاج لقرار سياسي جريء ورؤية إستراتيجية بعيدة المدى لتحويله من مجرد فكرة إلى واقع ملموس فهو الحلم القومى الذي تم تجنيد كل الطاقات والإمكانات والخبرات له حتى تم التنفيذ. والسد العالي أحد أكبر سبعة سدود ركامية في العالم وحجمه يبلغ 17 مرة حجم الهرم الأكبر، ويبلغ إرتفاع جسم السد 111 مترا، وطول جسم السد 3600 متر، عرض قاعدة الجسم 980 مترا عرض قمة السد 40 مترا.. يقاوم الهزات الأرضية حتى 8 درجات بمقياس ريختر .. واستخدمت في بنائه من مواد البناء 43 مليون متر مكعب من الأسمنت والحديد وغيره من مواد البناء ، وبه أكبر بحيرة صناعية لسد ركامي في العالم حيث تبلغ 126 مليار متر مكعب عند منسوب 182 مترا. يقع السد العالي على بعد خمسة كيلو مترات تقريبا إلى الجنوب من خزان أسوان، ويتدفق من جسم السد 11 ألف متر مكعب من الماء في الثانية، وشارك في بناء السد حوالى 400 خبير من الاتحاد السوفيتي. حمى السد العالي مصر وشعبها من أثار الكوارث والجفاف والمجاعات نتيجة الفيضانات المتعاقبة شحيحة الإيراد في الفترة من 1979 إلى 1988، حيث تم سحب ما يقرب من 70 مليار متر مكعب من المخزون ببحيرة السد العالي لتعويض العجز السنوي في الإيراد الطبيعي لنهر النيل، كما حمى السد العالي مصر من أخطار الفيضانات العالية من عام 1988 إلى عام 2001 ولولا وجود السد العالي لتكبدت الدولة نفقات طائلة في مقاومة هذه الفيضانات وإزالة أثارها المدمرة. ومن أهم مزايا السد العالي توفير أحتياجات مصر من الكهرباء وقد بلغ إنتاج الطاقة الكهربائية من المحطة حوالى 298349 مليون كيلو وات ساعة تستخدم في إدارة المصانع وإنارة المدن والقرى مع ضمان التشغيل الكامل المنتظم لمحطة خزان أسوان. كما أنه بعد بناء السد العالي زادت مساحة مصر من الأراضي الزراعية بمقدار 1,2 مليون فدان مع أيجاد مرونة في التخطيط الزراعي ونوعية المحاصيل وزيادة الثروة السمكية والإنتاجية عن طريق الصيد في بحيرة السد العالي مع الإسهام الملحوظ في تحسين الملاحة النهرية بنهر النيل والقنوات الملاحية الأخرى طوال العام . ومما يذكر فأن السدود تعد بالنسبة للمقاييس الهندسية الحديثة والقديمة من أعظم وأضخم الإنشاءات المدنية التي يبنيها الإنسان وقد شهد التاريخ بناء العديد من السدود منذ أقدم العصور ليس فقط لحماية البشرية من مخاطر الفيضانات وأنما للإستفادة بما تولده تلك السدود من خيرات والحقيقة أن أبسط ما يقال عن السدود أنها بمثابة استغلال لقدرات الطبيعة الكامنة .. حيث غيرت السدود على مدى التاريخ معالم الحضارة البشرية. وترجع فكرة بناء أول سد على نهر النيل إلى العالم العربي الحسن بن الهيثم عندما فكر في بناء سد يحافظ على مياه النيل في السنوات ذات الوفرة المائية لاستخدامها في مواجهة قلة المياه خلال سنوات الجفاف لكن قلة الإمكانيات لم تساعده في تحقيق ذلك. وفى بداية القرن التاسع عشر اتجه التفكير نحو تحسين وسائل التحكم في إيراد النهر وتحسين إدارة مياهه للتوسع في زراعات القطن والزراعات الصيفية ففي عام 1820 تم اكتشاف منابع وأحواض النهر وإمكانيات إنشاء السدود والقناطر على مجرى النهر الرئيسي وتركزت الدراسات في مناطق أسوان ورأس الدلتا حيث فروع النيل الرئيسية، وفى عام 1843 أنشئت قناطر على فرعى دمياط ورشيد لتحسين أدارة مياه النيل ورفع مناسيب المياه لتغذية الترع بهدف التحول من الري الحوضي إلى الري المستديم والتوسع في الزراعات الصيفية ، وتواصلت الإهتمامات والطموحات التي تمخضت فيما بين عام 1897 و1902 عن إنشاء خزان أسوان القديم وقناطر أسيوط و زفتى، ثم تلا ذلك إنشاء قناطر أسنا عام 1908 ونجع حمادي عام 1930، وقناطر أدفينا عام 1951 على مجرى النهر الرئيسي وفرعيه دمياط ورشيد. إن السد العالي مازال وسيظل هو ركيزة التنمية في شتى المجالات وأداة فاعلة في إدارة مياه نهر النيل والتحكم فيها وفقا للإحتياجات، وتتزامن ذكرى وضع حجر أساس السد العالي هذا العام مع استمرار أزمة سد النهضة الإثيوبى خاصة أن أزمة هذا السد لا تنحصر في أنه يمثل إعتداء على حقوق مصر المائية التاريخية لكنها تكمن أيضا في أثار السد السلبية على مصر ولها تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية. ويرى الخبراء في مجال المياه أنه من الأمور المؤكدة أن هذا السد المقرر أكتماله في عام 2017 سيفقد مصر والسودان كمية كبيرة من المياه تتراوح بين خمسة و25 مليار متر مكعب فضلا عن نقص مخزون المياه خلف السد العالي بما يؤثر سلبا على الطاقة الكهربائية المتولدة منه بما يتراوح بين 20 بالمائة و 40 بالمائة.. و بالرغم من عدم توصل اللجنة الثلاثية إلى اتفاق بعد ثلاث جولات من المفاوضات بشأن النقاط الخلافية محل التفاوض مع أثيوبيا، ترى مصر أنه ما يزال باب الحوار مفتوحا مع اديس ابابا .. وتنتظر أن يقدم الجانب الإثيوبى بدائل تصب في مصلحة البلدين.