قبل حوالي 17 سنة، كنا نرتب لقضاء ليلة رأس سنة صاخبة، اشترينا كل اللازم لقضاء سهرة لا تنسى، كنا تشكيلة من الشيوعيين والناصريين والبين بين، لم نكن ندعي أن لدينا أخلاقا، لكن نؤمن أن ما نعرفه يجب أن نبلغه للناس، سواء زملاء في الجامعة أو أقارب وفلاحين وصنايعية نحاول الاحتكاك بهم، لنحكي عن مسيرة الظلم والاستبداد منذ بداية الخلق، وعن المستقبل الأخضر والمجتمعات المثالية التي لن نشم هواءها الا ببذل الدماء، كنا نكتب على السبورة في مدرج المحاضرات "المجد للشيطان.. معبود الرياح... من قال لا في وجه من قالوا نعم....". اخترنا شقة زميلنا وصديقنا أحمد، الريفي الجميل الذي كان مثل "أمل"..... يخاف من "قنينة الخمر والآلة الحاسبة"، لكنه أراد أن يجرب صخب وسكر ليلة رأس السنة. كنا نتهيأ للسهرة، كل منا يعد ما في جعبته من جنون مؤجل وصراخ مكبوت، نتحسس ال "شنط" البلاستيك مزهوة بما تحمله من خمور وخبز وعصائر وطعام تفوح رائحته فتسيل اللعاب، نعيد تذكر النكات التي نحفظها، وخاصة الخارجة منها، ربما لأنها كانت ليلة للخروج من الطابور، من ايقاع المحاضرات والمعارك الكلامية على كافيتريا "تجارة"، يجهز كل منا ما سيقوله لأبيه إذا ضبطه يتسلل الى غرفته أو مخدعه "وش الفجر". وعندما فتحنا باب الشقة وجدناه جالسا على الارض يتصدر الصالة، فاتحا ذراعيه لنا، بينما ذقنه الطويلة تغلق باب السهر علينا، كان الدكتور (ع ) قد سبقنا الى الشقة وفتحها بالمفتاح الذي كنا نخبئه لبعضنا البعض (تحت الدواسة)، ملأت ضحكاته المكان وهو يتحسس وقع المفاجأة على نفوسنا، ويتوسط مجموعة من زملائنا "الملتزمين" دعاهم لقضاء ليلة رأس السنة في رحاب الله. يعضنا انفرد بنفسه في الغرفة أو دورة المياه، ودق على الجدار غاضبا ثم استغفر الله، وبعضنا لم يستغفر. الدكتوز (ع ) يدرس لنا مادتين بالكلية، كنا نذاكر كتب ابن تيمية في مادة (النظم السياسية) ونظريات الحاكمية لله ومثلث (الحاكم - العلماء - الرعية) ضمن مادة الاجتماع السياسي، والقليل القليل من دفعتنا، فتش عن كتب ونظريات حقيقية ليست اسلامية في مكتبة الكلية، وهؤلاء القليل كانوا من المستهدفين لجهود سعادته الدعوية والترويجية، كان يجاهد فينا ليحولنا من اشتراكيين وناصريين مخالفين لشرع الله ونواميسه، إلى إسلاميين يرددون خلفه عن قناعة (ون جود ...ون واي) إله واحد ... طريق واحد. من سوء الحظ أن هذه الدائرة البشرية في صالة شقة زميلنا أحمد كان أغلبها من العلمانيين المنبوذين المستهدفين، هؤلاء الذين خبأوا "شنط " الخمور وعلب البيرة، وباقي لزوم السهرة تحت المرتبة، تماما كما يفعلون مع كل أشيائهم الممنوعة، عادوا يجرون أذيال اليأس الى الصالة، يحاولون التجاوب مع السهرة بشكلها الجديد. ظل يصلي إماما بهم لأكثر من ساعتين، أطال..... بينما بعضهم يتمتم مستغفرا، وبعضهم يرفع صوته متجاوبا ليغالب النعاس. عندما انتهى واعتدل واراح ظهره الى الجدار، تنفسنا الصعداء وعاودنا الاستغفار من جديد، قلنا: سيغادر الليلة وسنعيد للسهرة بريقها وصخبها وجنونها... إلا أن صوته عاد يجلجل في المكان طالبا منا، وبالدور أن نبدأ "الشحاتة" من الله، ومارس الجماعة طقس الشحاتة، عبر تلاوة أدعية محفوظة أو مبتكرة (صديقنا هيبة ردد : "اللهم اجعلنا تقدميين" حوالي عشر مرات)، وعندما جاء دوري لكزت النائم بجواري، وكان من "الاخوة" فاستيقظ ينشد أحلى دعاء، ويثلج صدر الدكتور عين ب"الشحاتة " اللي على أصولها، فيصرخ بصوت عال "آآآآآآآمييين".
لم يترك الدكتور (ع) الشقة الا بعد أن غادر كل منا الى بيته... ونحن لا ندري إن كنا قد أخطأنا أم لا ؟ نستغفر في سرنا، ونتلفت خلفنا ونحن على يقين أن الدكتور (ع) يراقبنا واحدا واحدا، أو أرسل تلامذته الملتحين الى بيوتنا. هو يعرف إننا خبأنا ذنوبنا تحت المرتبة.