العنف المستخدم لا يعرى الأجساد فقط ولكن يعرى القبح الساكن فى نفوس البعض. عندما تعرت سيدة مصرية، وعندما تعرت أجساد مصابة وسحل ميت على أرض مصر كانت الكرامة الانسانية تسحل معهم، وقيمة الوطن هى التى تهان ممثلة فى أهانة أجسادهم وحقوقهم الانسانية والوطنية، وكانت فى طريقها تعرى القبح الذى فى نفوس البعض وفى قلوبهم التى لا تبصر وأن أبصرت عيونهم. كان فعل التعرية ناتجا عن فعل العنف والسحل وبغض النظر عمن سحل وما كان أو كانت ترتديه، وما كان أو كانت تفعله... يبقى الموقف الأساسى الذى ينبغى أن نتفق عليه هو رفض العنف والتعذيب والاهانة. فكلما بدأنا من نقطة الجدل حول أسباب التواجد أمام مجلس الوزراء أو سابقا فى شارع محمد محمود كلما بررنا دون قصد أو بقصد استخدام العنف كآلية من السلطة ضد المواطن. وكلما ركزنا على ملابس الضحية سواء أكان نقابا أو حجابا أو بدون كلما حملنا فى كلماتنا استثناء للبعض وقبول ممارسة العنف ضد البعض. القضية الأساسية هى حق المواطن فى حماية حقه الانسانى وحقه كمواطن سواء فى اعتصامه أو فض اعتصامه أو ألقاء القبض عليه وتوجيه التهم والمحاكمة يتساوى فى هذا جميع البشر بلا استثناء.
فى نفس السياق علينا الا نكون جزءا من سلاح القمع والعنف فالأسلحة ليست مادية فقط وما الحديث عن شهادات وملابس القتلى والمصابين والمتظاهرين الا أهانة أخرى وقمع وعنف يمارس ضد الانسان فى معركة يتم شد الجميع إليها من خلال أحاديث الإعلام عن طبيعة الثوار وطبيعة من هم فى الشوارع والميادين الثائرة. وأن كانت نسبة من تتظاهر من عامة المصريين هى الغالبة فإن هذا يبقى شأنا طبيعيا فى شعب ترك للفقر والمرض أو بمعنى أصح تعرض للإفقار على مدار عقود طويلة ومورست ضده أسلحة التجهيل حتى يظل خانعا معنيا بحياته اليومية ودائرا فى فلك لقمة العيش وباحثا عن الستر فى أسط معانيه. علينا أن نتحرر أولا من ممارسة العنف ضد الانسان لمكانته الاجتماعية، فإن كان الثائر غنيا أو فقيرا فهو مواطن - انسان لديه حس وطنى مكنه من النزول وتقديم ما يملك من إمكانيات. توقفت كثيرا أمام كلمات يتم تداولها بسعادة عبر وسائل التواصل الاجتماعى عن أشخاص من "الفقراء" الذين فضلوا البقاء فى الصفوف الأولى لحماية الأغنى والأكثر تعليما، وفى كل مرة لا أشعر بالفرح ويتملكنى شعور عميق بالحزن لا أستطيع معه أن أوقف دموع العين!!! فإن صدقت تلك القصص فهى تعبر عن حجم المهانة والإذلال الذى أنتجه النظام المراد إسقاطه خلال عقود لدرجة أوصلت الانسان لتحقير قيمته والنظر لمكانته وفقا لوضعه وما يملكه، وإن لم تصح فهى تعبر عن رؤية طبقية تسعى لترسيخ صورة مصر التى أرادها نظام مبارك والذى نجح فى ترسيخها فى عقول الجميع ويتم تسريبها بشكل غير مباشر وسط التهليل والفرح على رغم ما تحمله من طبقية وألم.
بعد أن تمسك المجلس العسكرى فى أحداث سابقة بأن رصيدهم لدينا يكفى لتجاوز الخطأ وشككنا كثيرا فى صحة استخدام تلك المقولة فيما استخدمت فيه، أصبح رصيدهم لدينا كافيا لتصديق ما يحدث من عنف. فى البداية كنا نقول ونتوقع أن الشرطة فقط يمكنها أن تستخدم العنف ضد المواطنين السلميين، وكنا نعتبر أن الجيش كيان مختلف وعقلية مختلفة، الآن أصبح الجيش على خط واحد مع الشرطة فيما يتعلق باستخدام القوة كآلية للتعامل مع الشعب. فى أحداث محمد محمود قيل إن أفرادا من الشرطة العسكرية نزلت للشارع فى ثوب الشرطة والآن تبدو الصورة -ووفقا لرؤيتنا السابقة- وكأن رجال الشرطة نزلو للشارع فى ملابس الجيش!! البعض يحاول أن يتمسك بالصورة التى احتضناها للجيش المصرى ولو بالتشكيك فيما تراه أعينهم وفيما تنقله الصور والتسجيلات وكأننا فى محاولة أخيرة لتبرئتهم وإراحة قلوبنا التى أتعبتها مشاهد العنف على ايدى قوات من الجيش المصرى -أيا كان السلاح المعنى- بعد أن أدمتنا كثيرا مظاهر العنف على أيدى رجال الشرطة المصرية. تمسكنا بخطاب أنهم غير، وأنهم منا ونحن منهم، وأنهم شيء آخر. وربما يصح القول بأننا تخيلنا رجال الشرطة شيئا آخر فى ممارساتهم للعنف فأصبح شأن ممارسة العنف حكرا على جهاز الداخلية وارتضينا أن يشوه جهاز واحد وان نحافظ على صور نقية لأجهزة أخرى. أردنا أن نحمى صور جميلة داخلنا فصدمنا مظهر القبح الذى رأيناه، شككنا مرارا وتمسكنا بخطابات الجيش والشعب أيد واحدة، والجيش غير المجلس، والجيش غير الشرطة ولكن عندما يتكرر الخطأ لا يمكن الحديث عن حسن النية ولا عن سوء التقدير، وعندما تتشابه الملابسات تصبح التساؤلات أعمق والردود القادمة عبر المجلس فى صورة فيديوهات يحاول من خلالها تبرير استخدامه للعنف غير ذات معنى لأن العنف لا ولن يبرر والمتهم والمدان بالجرم -بعد محاكمته- عليه الخضوع لحكم القانون وليس لحكم العصا والسلاح وقانون الغاب القائم على السحل وتمزيق الملابس وإهانة الكرامة. للدهشة قيمة عظيمة فعين الدهشة تجعلنا قادرين على الرؤية بعمق والتمييز بين الأشياء، ولكن ما يحدث فى مصر يبدو وكأنه يقودنا لغياب حالة الاندهاش فكل الأشياء تتحول لأشياء ممكنة ومتوقعة حتى وإن لم تكن مقبولة. أصبح سلوكهم "متوقعا" وأداؤهم "معروفا" وما يصدر عنهم لا يصيب بالدهشة ولا بالصدمة ولكن بأشياء أخرى كثيرة فى باب رفض كل ما هو غير انسانى والشعور بالحزن والغضب وتأجيج مشاعر الثورة. العنف لا يبرر والثورة بالأساس فى كل نسخها العربية وليس فى مصر فقط قامت على أساس رفض العنف والظلم فهل يعتقد أحد أن استمراره فى استخدام العنف سيؤدى لقتل الثورات؟ هل ستعود النفوس خانعة؟ هل ستقبل العين أن تحتضن مظاهر العنف العلنى بعد أن كانت تتجاوز عن العنف المسموع عنه والمتعايش معه ضمنا؟ هل ستقبل العقول أن تنسى سحل جثة القتيل وبسمة العين الجريحة ودماء الشهداء على الأرصفة ودموع الأمهات فى الشوارع والميادين؟ هل ستقبل الروح بالانكسار العلنى بعد أن كانت تتعايش مع انكسار ضمنى لازمها لعقود طويلة؟ هل ستقبل أن تجهض فرصة التغيير التى بدأت مصر فى دفع ثمنها بالفعل فيضيع ما دفع هباء ويصبح جزءا من تاريخ يحرق ويسلب ويهان تحت سمع وبصر الأجهزة المسئولة عن تأمين مصر؟
يحاول البعض فى سبيل التعبير عن رفضه للوضع الحالى أن يتباكى على وضع سابق، ويتندر البعض خطأ بأن أيام وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى تبدو أفضل من الأيام الحالية، أو أن ايام مبارك فى مجملها أفضل من حكم المجلس العسكرى وهى مقولات لا يفترض أن نكررها أو نتماشى مع وقعها الأول والمباشر لأنها ببساطة تتجاوز على خلفية الثورة وتختار من بين كل ما هو قبيح وسيئ فى حين أن المطلوب هو المقارنة بين القائم والمراد. أعتقد أن وضع مصر الحالى مع صعوبته يمتاز بمواطن يتحدث ويتحرك ويعبر ويثور ويدفع ضمن ثورته، وأن ما يمارس ضده من قمع ليس الا امتدادا لما أسميته سابقا آليات كتاب نظام مبارك، فعندما أراد المجلس العسكرى التعامل معنا سياسيا وأمنيا عاد لكتاب الحكم القريب فى فترة حكم مبارك ولم يكن لديه القدرة على ترسيخ قواعد ديمقراطية بديلة -لاعتبارات كثيرة- فأعاد إنتاج الأخطاء ولكن لأن أيام العادلى كانت تبدو داخل المؤسسات أحيانا وبعيدا عن ساحة الإعلام أحيانا كثيرة فلم نكن نراها بتلك الصور التى تنقل لنا من الشوارع والميادين الثائرة فى مصر. وفى كل الأحوال ومع وجود أسباب موضوعية للقول بتغير الصورة عما سبقها أعتقد أنه لا يصح أن نتباكى ولو رمزا بزمن نرجو الا يعود يوما وصور نرجو الا تتكرر والا تخرج من صفحات التاريخ التى احتوتها.
تبدو الصور مختلطة بين الساعين للكراسى والساعين للحرية، وبين الساعين للبقاء على قيد الحياة والمستعدين لتقديم الحياة، والراغبين فى الحصول على الثمن والراغبين فى البذل والعطاء، والراغبين فى الحفاظ على الكراسى والراغبين فى استعادة وطن.... ولكن فى النهاية ولأن الحق يشرق بعد الليل الطويل فإن مصر قادمة وعائدة كما نرجوها وإن طالت المعركة.