على خلفية أحداث مجلس الوزراء وتكرار الكثير من المشاهد السابقة خاصة أحداث شارع محمد محمود سيطرت وبقوة أحداث فيلم "عنتر ولبلب" لمؤلفه سيف الدين شوكت.. وقبل أن يتجه القارئ للحكم على الفكرة بالكوميديا أو ابتعادها عن روح ما يجرى على الأرض، وابتعادها عن جو الموت والألم والإهانة التى تميز الأحدث فإن إسقاط ما يحدث مختلف وله شجونه الخاصة بعيدا عن مشهد النيران هنا أو مشهد الكوميديا فى الفيلم. وعلى الرغم من عدم وجود رابط مباشر بين الفيلم والأحداث الساخنة التى تشهدها مصر والتى تتكرر بشكل يثير العديد من التساؤلات حول أسبابها والمسئول عن تصعيدها بنفس السياق الذى تصاعدت به أحداث محمد محمود أو الاعتداء على المعتصمين بعد الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية، فإن التفكير فى الفيلم والثورة يعيدنى إلى بداية الربيع العربى فى مقدمته التونسية والتى بدأت بصفعة واحدة حصل عليها محمد البوعزيزى من موظفة تمثل الدولة، لتتحول إهانة الصفعة "القلم التى لا تحتمل" - كما أكدت كلمات البوعزيزى الأخيرة على صفحته على الفيس بوك وكما أكدت والدته مرارا- إلى نيران اشتعلت فى جسده فامتدت لعروش ظنت أنها بعيدة وفى مأمن لعقود طويلة قادمة كما كانت فى مأمن لعقود طويلة ماضية. جاء القلم الواحد والشرر المتطاير من جسد البوعزيزى ليهز عروش ويهد بعضها ويشعل النار فيها بالفعل فى حين مازال عدد غير قليل فى حالة قلق وترقب من تأثير النيران التى لا تطفأ ولا يبدو أنها ستطفأ ما دام الظلم قائما
القلم إذن كان فى مشهد الثورات العربية رغم أنه لا أحد توقف عنده كثيرا، ولكن كما جاء فى أحداث الفيلم المصرى فإن المطلوب للبطل المصرى كى ينتصر ويستكمل بطولته أن يوجه هو لخصمه سبعة أقلام. والمهم أن الوصول للقلم السادس لا يعنى الانتصار لأنه دون الوصول للقلم السابع تنتهى البطولة وتموت فى مهدها وتصبح تضحيات البطل وجهوده على مدى الأيام الستة جزءًا من التاريخ الذى قد يتم روايته ولكن بتندر أو سخرية..فى حين أن الوصول للقلم السابع والنجاح فى توجيهه يعنى نجاح البطل فى تدشين وتأكيد قواعد جديدة للبطولة وإرساء قواعد أخرى للعدالة والقوة
فى مصر يحمل المشهد جزءًا من تلك التركيبة، فنحن من جانب أمام عنتر الذى تعتمد قوته على عضلاته واستخدامه العنف واختراق القواعد والتلاعب غير الشريف من أجل الوصول لأغراضه ممثلة فى السيطرة على الشارع والحصول على خطيبة البطل وطرده من الشارع. بالمقابل فإن لبلب يقرر خوض التحدى بالاعتماد على عوامل أخرى جديدة، وفى سبيله لتأكيد إنسانية الحارة يعتمد على عقله والصحبة والجيران من أجل مواجهة القوة والعنف والتدليس، يعبر عن العمل الجماعى والتفانى من أجل الفرد؛ لأن قضيته صارت قضية الجميع ونجاحه وانتصاره صار نجاحا وانتصارا لروح الحارة رغم أن هزيمته تبدو من الجانب المباشر هزيمة شخصية لكنها فى معناها الأعمق هزيمة للحارة ولروحها ولكل فرد فيها سيكون عليه الرضوخ للأسس الجديدة التى ستقرها القوة. وفى طريقه لتنفيذ هدفه يرفض لبلب وبشدة اللجوء لآليات عدوه أو منافسه أيا كانت التسميات، فبعد أن يصل للقلم السادس يعرض عليه عدد من جيرانه وأصحابه أن يساعدوه فى إنهاء المهمة من خلال حصارهم العدو و"تكتيفه" حتى ينفرد به ويقوم بصفعه بالقلم السابع حتى ينتهى الصراع ولا يخسر، ولكن لأن القضية تتجاوز حدود القلم السابع وتتجاوز حدود المكسب والخسارة فى هذا الرهان المباشر ولأنها تعيد تعريف أسس العلاقات فى الحارة أسس الوطن فإنه يرفض ويصمم على أن تستمر المعركة كما بدأت من جانبه بشرف..
أتوقف عند ملامح كثيرة نشاهدها على مدى الأحداث وسط الضحكات ولكنها تدشن لتغيرات مهمة تحدث على الأرض، ولعل أبرزها تغير مفهوم القوة وعلاقاتها. ففى أثناء لعب الأطفال فى الحارة وعندما يحاول طفل يبدو أكبر حجما الاستيلاء على طائرتهم الورقية يأتى الرد حاسما وقويا ومهيبا من الطفل الأقل حجما عندما يذكره بأن لبلب الأقل حجما صفع عنتر الأضخم حجما وأن القوة ليست فى الحجم.. لم تكن القضية التى ردعت الطفل الأضخم هى قناعته بقدرة الطفل الأصغر حجما على قتاله أو الانتصار عليه فى معركة تعتمد على القوة البدنية، لكنه -فيما أرى- صدم من القوة التى عبر بها الطفل الأقل حجما عن حقه، صدم بحقيقة أن القيود تحطم مع صوت الصفعه التى زلزلت الحارة، وأكد أن كل الأشياء تبدأ من داخلنا عندما نتخيل أننا أضعف أو أن من أمامنا أقوى رغم أننا أصحاب الحق والقضية، كما أشعلت صفعة البوعزيزى جسده وكما أشعل جسده الثورات وأطلق طائرها محلقا من بلد عربى لآخر ومن البلدان العربية لغيرها
بالطبع لم يكن لبلب كحال مصر ثوريا دوما، كان إنسانيا كما ظهر من تعاطفه مع الأطفال بعد اعتداء عنتر عليهم بالصوت العالى والتهديد والوعيد الذى كرره لهم فى حالة عودتهم للعب أمام محله، وهو التهديد الذى أطلقه فور وصوله الحارة ليؤكد مثلا مصريا شهيرا هو: “اضرب المربوط يخاف السايب”، فالقوة فى مواجهة الأطفال كانت كفيلة للفت نظر الكبار لقوة ومكانة عنتر والرضوخ لتلك الصورة والبناء عليها فى المستقبل. وبدوره لم يتجاوز لبلب حدود الصورة المرسومة للقوة، وعندما أراد التدخل لردع الظالم جاءت مطالبة من حوله له بألا يتدخل وألا يصبح طرفًا فى مشكلة عامل كاف لتراجعه عن التعبير عن رأيه خارج مساحته الآمنة أو التدخل فيما لا يعينه. وعندما انتهك حقه المباشر داخل المحل ظلما لتصور عنتر أنه قد شكك فى قدرته لم يملك لبلب إلا الانسحاب من الساحة وسط الضحكات والسخرية التى صاحبت المشهد.. تلك الصور كانت طبيعية فى الحارة كما كانت معتادة فى مصر، مشاهد الظلم وضحايا العنف التى ظلت فردية ولم يشعر أحد أنها تخصه أو تهدد أمنه طالما أنها تحدث لجاره أو لبعيد لا يعرفه.
وعندما هدد لبلب فى عيشه كان قراره -كما ردد البعض فى مصر- ضرورة الانسحاب من الحارة، فهناك حارات أخرى دوما ولكن بظلم أقل ربما أو بظلم بعيد.فقط الحب ربط لبلب بالحارة، الحب الذى لن يجده فى غير الحارة، الحب بمعناه الضيق والواسع ربطه بالحارة وأثبت له بكلمات أغنية رائعة أن هناك أشياء لا تستبدل ولا توجد خارج حدود الحارة- الوطن
عندما قرر لبلب المواجهة والوقوف فى وجه عنتر- المدرعة- الدبابة- فرد الأمن كسر الحلقة الأولى من سلسلة ذهنية أسست للقمع والظلم كحالة قدرية، وعندما دخل فى حالة الرهان القائمة على مواجهة الظالم وتحديه وإهانته هدد أركان الحلقة كلها بالسقوط، وهو الأمر الذى ظهر واضحا فى محاولات الخصم الفرار والمراوغة من أجل تجنب المواجهة أو إسقاطها، وبالتالى الحفاظ على عوامل الصورة القائمة بلا تغير. مع توالى الصفعات.. توالى استبدال الصورة وتحول كل انتصار بصفعة جديدة بمثابة احتفال كبير للحارة ككل- للوطن لأنه انتصار على الظلم وتأسيس لقواعد جديدة للعلاقات.
أتوقف أمام المشهد الآن فى مصر على خلفية صورة عنتر ولبلب، صوت الصفعة التى تتشابه مع أصوات الأسلحة وعنف النظام الذى يدافع عن وجوده للحظة الأخيرة مقابل الشخص الضعيف جسمانيا الراغب فى ترسيخ العدالة وقوة العقل وقوة الحب كأسس للحارة- الوطن.قد يبدو الثائر فردا ضعيفا فى مواجهة الدبابة ولكن العقل والقلب ينتصر على الآلة دوما .
لم يصل عنتر إلى حجم العنف بالطبع؛ لأنه ظل فردا فى آلياته التى استخدمها وهو ما يختلف عن الدولة، وظل لبلب فردا فى المواجهة النهائية لأنها كانت معركة فردية أيضا بغض النظر عن الدعم والمساندة التى حصل عليها كل طرف، ولكن بإسقاط المشهد على الثورة فإن عنتر لن يسلم بسهولة وسيجد من يسانده دوما حبا فى القوة والعنف أو طمعا فى الجاه والسلطة أو كرها عاما للخير ورغبة فى استمرار الشر. وسيجد الخير أيضا من يدعمه ويسانده لأنه الحق الذى يفترض أن يكون.. قد تبدو المعركة أحيانا غير متكافئة، وقد يفرح القوى بنصره ويشدو بقوته.. وقد يبقى بعض أهالى الحارة مجرد مشاهدين ومتابعين من البلكونات وعبر الحديث العابر، ولكن كل تلك الصور تتغير مع كل صفعة توجه للنظام المراد إسقاطه، ومع كل بطشة ظلم توجه من قبل القوى يفقد الكثير من أسس قوته لأنه يظهر بوجهه العارى العنيف المشوه الذى كان يداريه بقوته.. تبدأ التجاعيد فى رسم ملامح شخصية القوة وتبدأ ملامح القبح فى الظهور على السطح، ويبدأ كل فرد فى إدراك الحقيقة الأساسية وهى أن الصمت لا يعنى الحماية ولا الأمن، وأن المخاطرة والتهديد لا تقتصر على لبلب فقط ولكن على قواعد الحياة والبقاء فى الحارة أو فى الوطن- مصر.
قد يطالب البعض الثورة بأن تكتفى بما تحقق كما حدث مع لبلب، ولكن كما كانت تلك خديعة فى حالة لبلب تقصد سحب الانتصار الذى تحقق وإعادة الأمور لما كانت عليه، فإن الاكتفاء بنصف طريق لن يحقق ما أرادته الثورة لمصر وما تفترضه الدماء التى سالت والأعين التى فقدت والآلام التى عاشت أجساد وأسر جريحة قد نكون فى مرحلة أولى. ولكن النصر لن يتحقق إلا بالقلم السابع.. فصبرا مصر.