أكتب تلك الكلمات اليوم على وقع أغانى الثورة ففى بعض الأجواء تكون للكلمات الثورية قيمة مهمة قد لا يقدرها البعض، ففى وسط الأجواء الحالية القائمة على تعظيم المخاوف أو التخويف أرى من الضرورى التأكيد على أن الثورة لم تكن طفرة ولم تكن هبة لحظية فى تاريخ مصر يفترض أن نعود بعدها لما كنا عليه ولو نسبيا. أعود للكتابة عن أجواء ما بعد الانتخابات فى مرحلتها الأولى والحديث عن سارق الفرح أو سارقى الفرح ومصدرى الخوف ومتعهدى الحديث عن شد الحزام والوطن المختنق والاقتصاد الذى يقف على حافة الهاوية. لا أنكر أن الوضع ليس رائعا وأن هناك تحديات لا يمكن أنكارها، ولكن فى سبيل التعامل مع تلك التحديات لابد من سياسات وليس الخروج بدموع على حال المواطن ولا بمطالبة الإعلام بالتزام الصمت المؤقت.
ولتأكيد موقف شخصى لا أرى أن المسئول عليه أن يخرج على الناس متعاطفا وباكيا، ولا يعنينى من المسئول أن يكون هو أو ابنه من مرتادى المساجد أيضا فالفاصل بينى كمواطن وبين المسئول هو السياسات والتصريحات التى تصدر عنه وما يتبعها من أفعال ولهذا كنت ولازالت منتقدة للتركيز على المسئول المتعاطف والمسئول الباكى والمسئول الذى يذهب لمطعم مع أسرته وكأننا صدقنا أن المسئول إله أو نصف إله فجاء نزوله بمثابة خروج الفرعون على العامة فهلل البعض وكبر البعض ثم نام المسئول وظلت أوضاع الوطن والمواطن كما هى أن لم تكن أسوأ.
لا أهتم أن يتناول المسئول طعامه وسط الشعب لأنه فى قيامه لهذا لم ينزل لجموع الشعب التى لا تجد قوت يومها، وإن وجدته فلن تجده فى هذا المطعم المسمى شعبى والذى ذهب إليه ومعه الكاميرات التى التقطت صوره ونشرتها ليحتفى الجميع ويبدأ البعض فى صناعة صور أخرى لا تمس حتى يكتشف الواقع عيوبها، ولكن بدلا من أن نتعلم نعيد مرة أخرى إنتاج وأتباع نفس الأساليب.
هل هى مفاجأة إذن أن يتحدث البعض عن دموع رئيس الوزراء الجديد ونجل وزير الداخلية وكأنها بمفردها نقاط كفيلة بحل مشاكل مصر؟ وكأن المواطن عليه تقبل هذا والنوم قرير العينين لأن يومه صار أفضل؟ هل فرق مع المواطن أن يذهب كل رئيس ومسئول سابق للصلاة فى المساجد فى كل مناسبة دينية متحدثا عن الدين والاخلاق فى حين يدفع المواطن والوطن الثمن من الفساد والإهمال والمرض والسموم المقدمة له فى الهواء والماء والغذاء؟ أعتقد أن عقود طويلة ماضية كفيلة بتقديم الإجابة، وشهور أخرى سابقة كفيلة بدعمها فرجاء لا تفرحو كثيرا بمظاهر رغم رمزيتها فى عملية التحول لا يجب لها أن تحول الاهتمام عن القضايا الأساسية.
ومن ضمن تلك القضايا الأساسية استوقفنى تصريح آخر نقل على وسائل الإعلام التى قامت بتغطية الحدث الذى ذكر فيه، والذى ترددت فى تصديقه وشككت فى أن يكون النقل تم بشكل مقتضب أو مخل بالمعنى حتى قامت صديقة أخرى بنقله ووضعه على راس صفحة الفيس بوك الخاصة بها لتنتهى قدرتى على المقاومة وليتحول القلق من طبيعة التصريح لتساؤلات ونقاش على صفحتها. والحدث عبارة عن تصريح منقول من حديث لشخصية ما وبدون ذكر أسماء لأن الهدف ليس هو شخصنه القضايا ولكن فى الخروج منها بالعموميات والنقاط الأساسية أو الجوهرية فيها. التصريح المنقول عن أحد الشخصيات البارزة على الساحة فى مرحلة ما بعد الثورة والتى تقدم بوصفها ضمن الأصوات الليبرالية المعتدلة أو الدينية المنفتحه أن جاز القول طالب وسائل الإعلام بالتوقف عن الحديث السلبى وأن تقوم بنقل الايجابيات أو تسكت على طريقة فلتقل خيرا أو تصمت. الغريب فى التصريح أنه يتعارض مع كل ما قامت الثورة من أجله ويتعارض مع كل خطاب الإصلاح والتوعية ودور الجماهير وتمكين البشر لأنه بدون إعلام حر لن يمكن تكوين رأى والتعرف على الواقع، أما مطالبة الإعلام بالانتقاء فأعادنى لخطاب النظام المراد أسقاطه حيث الصحف الحكومية والمقربة منه تنقل الصور الوردية وغيرها من معارضة مغضوب عليها ينقل الصور السلبية، وذكرنى بكل الكلام الخاص بالمساءلة والمطالبة بالشفافية وحرية الرأى والتعبير. كما جاء مستخدما للدين فى غير موضعه ومتناقضا مع خطاب تلك الرؤى التى تطالب بإبعاد الدين عندما يستخدمه غيرها أحيانا واستخدامه إن كان لصالحها. كان الجدير به -إن صحت تصريحاته- أن يتحدث عن مسئولية وسائل الإعلام فى نقل الحقيقة وتوعية الجماهير بما يحدث سلبا وإيجابا، ومسئولية المواطن فى فرز ما يستمع له والتعرف عليه. ولكن أن نطالب الإعلام بغض الطرف عن كل ما هو سلبى والصمت عنه باستخدام خطاب دينى - ليبرالى فهو مرة أخرى كلمات حق يراد بها باطل وخروج عن مراعاة الدور والثقة التى افترضها القراء والمتابعون فى تلك الأسماء.
لا أنكر طبعا أننى شخصيا كنت أقدر بعض الأسماء التى فقدت قيمتها بعد الثورة لأنها ظهرت بصورة مغايرة، فى حين أن كرم الله وحده أثبت أن البعض سيبقى جديرا بالثقة التى أضعها فى كلماتهم ومواقفهم والتى المس فيها حرصا وطنيا حقيقيا. أكرر مررا أننى أختلف من أجل مصر، وبالفعل تغيرت صور البعض وفقا لمواقفهم التى ظهر فيها حبهم للمناصب والسلطة والأضوا أكبر من حبهم للوطن ومصالحه ومصالح شعبه. ولازلت فى جدل خاص كيف يستقيم أن يلبس الشخص الواحد عشرات القبعات فى نفس الوقت؟ وكيف يمكن أن نتعامل معه وأن نفهم مواقفه؟ كيف نفصل تلك القبعات عندما نستمع له أو نقرأ لما كتبه أو لما صرح به؟ هل يمكن أن أفصل موقفه الإكاديمى عن دوره السياسى عن مداخلاته وتواجده الإعلامى عن أشياء أخرى كثيرة كانت عوامل انتقاد من قبله عندما كانت سمة من سمات أتباع السلطان السابق فما الذى يجعلها الآن فوق النقد؟! أتأسف أحيانا ولكن لا يدوم الأسف كثيرا لأن المعرفة فى حد ذاتها مطلوبة والحقيقة لا يجب إنكارها حتى وإن جاءت مغايرة لما نحب. قالت الصديقة إن تلك الكلمات هى مجرد أتربة تم حشوها فى عيوننا لفترة طويلة من خلال فصول الدراسة والتتلمذ على أيدى البعض، واعتبرت من جانبى أن الوقت قد حان لإزاحة تلك الأتربة المتراكمة ليس عن العيون فقط ولكن عن القلوب والعقول.
وربما يكون من الصدق القول إن الإعلام بعيوبه وإيجابياته لا يختلف عن كل الصور التى حولنا بما فيها من شخصيات ورموز سياسية أو فاعلة لأن البعض غث والبعض ثمين وعلى البشر من خلال المعرفة وإعمال العقل ومقارنة المصادر المختلفة إدراك ما هو غث وما هو ثمين لا أن تكون الآلية هى المنع والمداراة لأنها آليات التسلط والقمع وتغييب العقل والتحكم فى البشر عبر التحكم فى المعرفة فى حين أننا نريد وطنا حرا قائما على المكاشفة والشفافية التى حدثونا عنها كثيرا، وقائما على حرية الإرادة وحرية القرار وحرية الفرد فى اتخاذ قراره والوصول للمعرفة ومحاسبة المسئول بناء على تلك المعرفة.
وأعود لنفس هذا الجدل فى شق التخويف الذى بدأت به، هل مصر ضعيفه لهذا الحد؟ وهل نحن مجرد شخصيات فى رواية هزلية نقوم بما يملى علينا من أدوار؟ هل مصر بهذه الهامشية التى تصور للبعض أن فوز البعض بعدد معين من المقاعد هنا أو هناك سيكون كفيلا بأن نلبس غدا رداء الرواية الجديدة التى تملى علينا وأن تغير مصر كيانها حسب من يخرج النص؟؟ للأسف نستبدل فزاعة نظام مراد إسقاطه بفزاعة نظام سلطوى آخر راغب فى بناء نفسه تحت دعاوى مختلفة.
وشخصيا لست مع إعادة تشكيل شخصية مصر أو هويتها لأن مصر ليست وطنا لقيطا، وليست بلدا مشرذما خارجا من غياهب التاريخ، وليست مقرا لمرحلة مؤقته من حياة البعض من لا يعجبه فيها البقاء يرحل ومن يملك فيها مصلحة يبقى... مصر بالنسبة لى لم تكن يوما هرما ونيلا رغم أهميتهما وحبى لهما ولكنها البشر والروح التى لا توجد فى غيرها مهما انتقدنا وتحدثنا عن عيوب هنا وهناك.. لا ينكر أحد المعاناة التى تعرض لها البشر خلال عقود ولكن هؤلاء البشر لم يتم اقتطاعهم من جذورهم ولم يستبدل بهم شعب آخر بل ظل جميلا رغم كل القبح الذى أريد به، وما يجب أن نستهدفه هو استعادة روح مصر ووجها الذى توارى خلف الفساد والجهل والفقر والمرض.
كنت أتمنى أن تكون لدى كل أصحاب الكلمات البراقة القدرة على الحوار مع المواطن بوصفه فاعلا ولكنهم وبدرجات متفاوتة اعتمدو خطابا استعلائيا فى التعامل مع الجماهير سواء فى حضورها أو فى غيابها. كنت أتمنى أن تكون الكلمات النظرية عن الحرية والديمقراطية وتمكين الفرد سياسات وأفعال تنزل من واقع الفضائيات والكتب والمحاضرات لتلامس الأرض وتحتك بالجماهير ولكن للآسف فضل البعض خطاب الانتقاد والهجوم بوصفه خير وسيلة للدفاع. وأعاد البعض عبر الفضائيات الحديث عن نفس مبررات الفشل أثناء العقود السابقة وهى أن النظام المراد اسقاطه لم يمنح لهم الفرصة!! سابقا كان يقال إن النظام المراد إسقاطه كان يعادى الجميع، والآن يتحدث البعض عن أن النظام المراد إسقاطه كان يحابى التيارات الإسلامية ولكن يبقى السؤال أين كانت تلك القوى لعقود وكيف كانت تدير صفقاتها السياسية مع النظام؟ وأين كانت خلال تلك الشهور الماضية؟ لقد رأيتها طوال الوقت على الفضائيات وصفحات الصحف والتصريحات المنقولة عنهم من مناسبات مختلفة وكيل الانتقاد لغيرهم من القوى التى تواجدت فى الشارع وبين الجماهير ولكن لم أر نفس القدر من الأداء فى النزول للجماهير والتعرف عليهم وكسر حواجز الطبقية التى تفصل بين أصحاب الياقات البيضاء والزرقاء والمواطنين بلا ياقات أصلا.
أتوقف عند نتائج الانتخابات بطريقتي الخاصة التى تعول على الانسان دوما والتى تثق فيه وتدرك أن التغير عملية مستمرة وأن تدشينه يحتاج لوقت، ولكن التعلم السليم يحتاج لأبجديات والأبجديات تقتضى التحاور مع المواطن دون انتقاص قدره. أتذكر مع الفارق الانتخابات الفلسطينية التى أتت بحماس فى المجلس التشريعى وبمحمود عباس (أبو مازن) فى المنصب الرئاسى وأدرك المنطق الذى حكم خيارات الناخب رغم عدم تفهم الغرب -لاعتباراته غير الديمقراطية-، الناخب الذى اختار أبو مازن بخياره التفاوضى- السلمى على مستوى الرئاسة قد يكون هو نفسه الناخب الذى اختار حماس لتكون مسئولة عن قوانينه وتشريعاته وضبط عملية التفاوض، ولتكون حالة تغيير من فصيل تم اختباره لفصيل عرف عنه من خلال استطلاعات الرأى ثقة المواطن فى نزاهته وفى قيامه بالكثير من الأدوار الخدمية التى كان يفترض أن تقوم بها السلطة السياسية الممثلة للدولة وهو ما لم يحدث...الناخب لم يتهم هناك بالجهل ولم يتهمه أحد بأنه حصل على الزيت والسكر. فى نفس الإطار، فإن الناخب المصرى الذى ذهب لصناديق الانتخابات واختار مرشحيه كان لديه تصوراته، ربما لم يضع الشعارات الكبرى فى ذهنه، ولم يفكر فى أن هناك أدوارا جديدة وسيناريو جديدا يتم إخراجه لمصر، ولكنه أراد التغيير واختار من تواجد معه على نفس الأرضية، وعلى القوى التى فازت والتى خسرت دوما أن تعيد تقييم حساباتها وسياستها بدلا من التفرغ لانتقاد الأطراف الأخرى.
تعيدنى حالة الخوف أو بمعنى أساسى التخويف الموجودة لسياق النظام المراد إسقاطه والذى كان يسربها للغرب حتى يمرر سياساته غير الديمقراطية عبر فزاعة الإسلاميين وفى الداخل عبر فزاعة الفوضى، أما الآن فالليبراليون الذين يتحدثون عن فزاعة الإسلاميين فإنهم يوجهون خطابهم للداخل والخارج ولسان حالهم أن بعض الديكتاتورية ضرورية لتمرير وجودهم، فالصناديق فجأة أصبحت عمياء وميتة ولا تعبر عن خيارات وديمقراطية تحدثوا عنها كثيرا.
تعيدنى أيضا تلك الأجواء لنقاش كان متضخمًا منذ سنوات عندما زاد الحديث عن العولمة مقابل الخصوصية الثقافية، وكيف تحدث الجميع عن العولمة القادمة لتقضى على القيم والثقافات، وأن التغريب الذى يتم عبر الأفلام والأغانى الغربية سيقضى على التراث الثقافى الخاص. وضع يده البعض فى حين رفضه البعض الآخر مؤكدين أن التيار القادم لا يملك أن يقضى على التيار القائم الا فى حالة واحدة وهى ضعف القائم وعدم قدرته على البقاء أو المقاومة، وأن عوامل القوة الحقيقية هى استيعاب التيارات القادمة وأخذ ما يفيد ضمن إطار عام لأسس الثقافة القائمة... تذكرت كلمات كان يرددها أستاذ عزيز دوما وهى أن الحديث عن الخصوصية الإسلامية أو العربية -أو المصرية فى تلك الحالة- لا يعنى أننا أقل من أحد أو أننا جسد غير مكتمل... ولأن الفارق كبير بين الرشادة وحوار العقل وبين التخويف وصولجان وسيف السلطان، وكما جاءت أشياء على مصر وظلت مصر أكبر فإن كل من لا يرى هذا سيسقط يوما حتى وإن ظل لعقود ثلاثة أخرى قادمة.