الدكتور فهيم فتحي عميداً لكلية الآثار بجامعة سوهاج    محافظ قنا يستقبل وفدا من مطرانية دشنا لتقديم التهنئة بعيد الأضحى    تسيير 3 خطوط طيران مباشرة إلى دول إفريقية.. "الهجرة" تكشف التفاصيل    طلاب جامعة حلوان يشاركون في حلقة نقاشية بأكاديمية الشرطة    تبدأ من 205 جنيهات.. قيمة المصروفات الدراسية للعام الدراسي المقبل    تراجع أسعار العدس والزيت واللحوم والدواجن في الأسواق اليوم الخميس    تحرك برلماني عاجل بشأن اختفاء الأشجار: قطعها يضر بالبيئة وبصحة المصريين    أسعار الأسمنت اليوم الخميس 13-6-2024 في محافظة قنا    «القليوبية» تحذّر من التعدي على الأراضي الزراعية في العيد: سننفذ حملات مفاجئة    وزارة الصناعة تعلن وقف استيراد هذا النوع من إطارات المركبات    تعرف على أهم توصيات وزارة الزراعة لمزارعى الذرة الشامية خلال يونيو    بسبب موسم الحج.. بن سلمان يعتذر عن المشاركة في قمة مجموعة السبع    الرئيس الأوكرانى: أثق فى دعم مجموعة السبع دائما    أمريكا توافق على حزمة مساعدات عسكرية جديدة تؤمن لأوكرانيا أنظمة دفاع جوية    الخارجية الإيراني: يجب إيقاف الإبادة الجماعية في غزة دون قيد أو شرط    كيف ستبدو السياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا في حالة فوز ترامب أو بايدن بالرئاسة؟    حسام غالي يُغني في حفل زفاف محمد هاني (فيديو)    كولر يضع اللمسات النهائية على خط الأهلي لمواجهة فاركو    وكيل وزارة الشباب بالغربية يشهد انطلاق ماراثون احتفالا باليوم العالمى للدراجات    بالأسماء.. غيابات مؤثرة تضرب الأهلي قبل موقعة فاركو بدوري نايل    موعد تظلمات نتيجة الشهادة الإعدادية بالقليوبية    الصحة: تقديم خدمات الكشف والعلاج ل15 ألفا و361 حاجا بعيادات بعثة الحج    "بينها ضبط 148 توكتوك".. جهود الإدارة العامة لمرور الإسكندرية في يوم واحد    الأمن يضبط جزار لقيامه بالتعدي على شخص في الجيزة    تجديد حبس شخصين 15 يوما لاتهامهما بترويج المواد المخدرة بالهرم    إخماد حريق داخل محل فى إمبابة دون إصابات    "رجل أحلامي".. أول تعليق من سلمى أبو ضيف بعد الاحتفال بعقد قرانها (صور)    «اللعب مع العيال» يحتل المركز الثاني في شباك التذاكر    عمرو دياب يغلق خاصية التعليقات على أحدث أغانيه الجديدة "الطعامة"    فيديو القبض على رجل وضع "السحر" بالكعبة    المفتى يجيب.. ما يجب على المضحي إذا ضاعت أو ماتت أضحيته قبل يوم العيد    نائب محافظ الوادي الجديد تتابع سير العمل بمستشفى الخارجة التخصصي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 13-6-2024    تحذير لمرضى الكبد من الإفراط في تناول اللحوم.. واستشاري تغذية: تؤدي إلى غيبوبة    أستاذ طب نفسى: اكتئابك مش بسبب الصراعات.. إصابتك بالأمراض النفسية استعداد وراثى    مقتل شخص وإصابة 4 في مشاجرة بين بائعي «أيس كريم» بسوهاج    إصابة 12 شخصا إثر انقلاب أتوبيس أعلى الطريق الدائري بمدينة أكتوبر    بيان من الجيش الأمريكي بشأن الهجوم الحوثي على السفينة توتور    5 أعمال لها ثواب الحج والعمرة.. إنفوجراف    يديعوت أحرونوت: اختراق قاعدة استخباراتية إسرائيلية وسرقة وثائق سرية    الخشت يتلقى تقريرًا عن جهود جامعة القاهرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة    انتهاء 96 % من أعمال ترميم مسجد أبو غنام الأثري بمدينة بيلا    "عودة الدوري وقمة في السلة".. جدول مباريات اليوم الخميس والقنوات الناقلة    هاني سري الدين: تنسيقية شباب الأحزاب عمل مؤسسي جامع وتتميز بالتنوع    «معلومات الوزراء»: 73% من مستخدمي الخدمات الحكومية الإلكترونية راضون عنها    بالتعاون مع المتحدة.. «قصور الثقافة»: تذكرة أفلام عيد الأضحى ب40 جنيهاً    حريق هائل في مصفاة نفط ببلدة الكوير جنوب غرب أربيل بالعراق | فيديو    وزيرة التخطيط تلتقي وزير العمل لبحث آليات تطبيق الحد الأدنى للأجور    "الله أكبر كبيرا.. صدق وعده ونصر عبده".. أشهر صيغ تكبيرات عيد الأضحى    فطيرة اللحمة الاقتصادية اللذيذة بخطوات سهلة وسريعة    حظك اليوم برج الأسد الخميس 13-6-2024 مهنيا وعاطفيا    لأول مرة.. هشام عاشور يكشف سبب انفصاله عن نيللي كريم: «هتفضل حبيبتي»    عبد الوهاب: أخفيت حسني عبد ربه في الساحل الشمالي ومشهد «الكفن» أنهى الصفقة    هاني سعيد: المنافسة قوية في الدوري.. وبيراميدز لم يحسم اللقب بعد    مدرب بروكسيي: اتحاد الكرة تجاهل طلباتنا لأننا لسنا الأهلي أو الزمالك    حازم عمر ل«الشاهد»: 25 يناير كانت متوقعة وكنت أميل إلى التسليم الهادئ للسلطة    «هيئة القناة» تبحث التعاون مع أستراليا فى «سياحة اليخوت»    مدحت صالح يمتع حضور حفل صوت السينما بمجموعة من أغانى الأفلام الكلاسيكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ.. رائحة أُمَّة
نشر في المشهد يوم 12 - 12 - 2011

مدينة الكاتب هى نتاج لبصمات تركها المكان والزمان في روحه وعقله ووجدانه، وقد تكون هذه المدن معادلاً للسعادة أو المتعة أو الحب أو الانتماء أو النفور أو الاستيهام أو المعاناة أو المنفى أو الاختناق أو الحرب، كما أن المدينة بوصفها فضاء مكاني وزماني، ترتبط في الذاكرة والتاريخ والحضارة والجغرافيا والأدب والثقافة.
وكما ارتبطت باريس ببودلير وكامي، وبراغ بكافكا، وبوليس أريس بماركيز، ولشبونة بيسوا، وأمريكا بهمنجواي، وطنجة بمحمد شكري، والدلتا بيوسف إدريس، وديروط الشريف بمستجاب، والنوبة بخليل قاسم وإدريس على، وصحراء ليبيا بالكوني، فأن القاهرة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بنجيب محفوظ.
القاهرة هى مدينة الأمان واللاطمأنينة والمجد واللعنة الدائمة بالنسبة لنجيب محفوظ، وبفضله واجتهاده ودأبه في معرفة وشرح تفاصيلها وعرض جغرافيتها وتاريخها، وتشريح أشخاصها وحياتهم، ولجت عالم الأدب من بابه الشاسع، ولم تعد مدينة فحسب بل اختزلت أمَّه برمتها، وأصبحت أمَّة نراها ونتلمسها ونشم رائحتها ونتخيلها ونعرف دقائقها وتفاصيلها، فخلدها وخلدته.
ومنذ البداية كان نجيب محفوظ يحمل بداخله القاهرة، يحملها كمكان واقعي أو افتراضي، وكزمان قديمًا وحاضرًا وحديثًا، وبسببها أصبح نجيب محفوظ يحمل بداخله العديد من العواصف والأعاصير الرهيبة التي تأتي لتضاف فوق سطح أرض القاهرة أو يتفجر بالبراكين التي ترقد في أعماقها السحيقة، كان مثل عملاق طليق أو فتوة جبار أو موظف روتيني، يحط على أي مكان بها فيرسمه بقلمه أو ينقشه بضربة نبوته أو يدمغه بختمه، يجعله ينبض بالحياة، عشقًا وحبًا ونفورًا واستهجانًا وموتًا.
نجيب محفوظ: ابن البلد والمجدع والصاعقة والبرق الذي شطرنا نصفين ورفع رؤوسنا إلى الأعالي وأضأنا للأبد وأغرقنا في رائحة أنفسنا إلى ما لا نهاية، ومن خلاله تشم رائحة الحارة الرطبة الدافئة والتي هى أصل مصر أم الدنيا، تلك الرائحة التي تنفذ للخياشيم وللروح وللملامح وللحشايا فغرقنا فيها وأصبحت بطاقة تعريف لنا وتاج فوق رؤوسنا، فلا ننساها مهما تجولنا وسافرنا وشاهدنا وتغربنا في البلدان والأماكن والقارات، رائحة حارة تحب وتعشق وتكره وتصرخ وتفكر وتخرج منها المظاهرات والأفكار ويختبئ فيها القتلة والصعاليك والثوريين والفدائيين والعشاق، ويمر بها كل لحظة تيارات من الخلق لا تنقطع، وأمواج من البشر لا تتوقف، فتشم رائحة زحامها وضجيجها وصمتها ومعاركها ونومها والعاب وصراخ وسباب أطفالها، تشم رائحة أرضها الرطبة والقذرة والمبللة بمياه الطرشي والغسيل والاستحمام والمتعة وتغسيل الموتى، تتلذذ أنفك برائحة "طشة" الملوخية والطعمية الساخنة والمحشي والبخور والفلفل الأسود والشطة النافذة والمش الحارق، حارة تأكل فيها ألذ طعمية وأشهى فول مدمس وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة رأس، وتشرب بها الشاي المخصوص والقهوة النادرة وتستمتع فيها بسحب أنفاس أحجار المعسل وتنتشي بشرب الحشيش المخلوط بالأفيون، حارة ترى فيها نساء مختلفي الأحجام والأشكال فتجد من يملأن القلل ومن يجمعن الغسيل ومن يخرطن الملوخية ومن يقشرن البصل ومن يمشطن شعورهن ومن يفللن أبناءهن ومن ينتفن شعورهن بالحلاوة ومن يضبطن حواجبهن ومن يشعلن الوابور ومن يعجن العجين ومن يتعاركن ويسببن بعضهن ويشققن جلابيبهن، ووسط كل ذلك ستجد أحدهن تقف وترفع يدها وتدعو على درتها التي سرقت زوجها.
حارة تري فيها أجساد تتمايل وأرداف تتراقص وشعور مهوشة ومسبسبة وغارق في الجاز والفازلين والزيت، وتلمس فيها نهود تهتز وترتفع وتنخفض تقدم أشهى غذاء في الكون وهو لبن الأم وأشهى متعة وحضن لأي رجل، تجد فيها شفاه تقبل وتخبص وتصرخ وتدعو وتلثم، وآذان تنصت لكل دبيب الحياة ولكل نميمة ولكل صرخة ميلاد تبدأ، فيها أعناق تتمدد وتتطاول وتلامس السماء أو تنكمش وتتضاءل وتنقصف وتبتلعها الأرض، أعناق بها عناقيد الياقوت النادر والبلاستيك التافه والصفيح والذهب المغشوش والبراق، تبصمها أقدام مشققة ومحناه وموشومة ومرسومة، بها كفوف ناشفة وطرية، جبارة وحانية، تربت وتصفع، تداوي وتقتل، ترى بها وجوه تحمل السمرة الطيبة والبياض الشفاف والشقاء النادر والأمل المستحيل وتجاعيد الزمان المحفورة، وجوه موصومة بالعار أو مختومة بالفقر أو مبتسمة بالأمل، وجوه مختفية خلف نقاب أو بيشه أو ملأه، أو صريحة وصارخة بحواجب تتراقص وعيون فاجرة تتكلم وتبتسم وترعب وتطلب، تظللها رموش في خجل أو مكر أو رغبة عارمة.
حارة نهارها دائم وحياتها متصلة ليلاً ونهارًا، حارة عجوز ولا يصيب شعرها المشيب، شابة وعمرها أكثر من ألف عام، حارة قديمة ولا ترى تعاريج الزمان على وجهها، روحها شابة ولا تعرف عمرها، تسمع بها دقة الزار ودراويشها المجانين الذين لا يكفون عن الغناء، تشاهد فيها راقصة تتمايل وهى تجرب بدلة رقص جديدة مزينة بالترتر والمقصب، وفرخة مذبوحة تفرفر وتنثر دماءها على المارين والجدران، وتجد أوباشها وهم يتراقصون في زفاتها الفقيرة الغارقة في ألوان المسرة، حارة الكل فيها يتحدث ويغني وينم ويثرثر ويسب ويصافح ويتعارك ويلقي النكات ويصرخ ويبكي، يصدمك بها عامل يحمل خشبة عجين، أو أقفاص العيش، ويتم الضحك عليك وأنت تلعب الدومينو أو الطاولة، حارة مجذوبة وعاقلة ومخبولة وعاهرة ومؤمنة وفاجرة، بها قطط تموء وكلاب تنبح وعناكب وصراصير تخرفش وفئران تنطلق من الشقوق على الجدران، وثعبان يزحف لمقابلة عقربة أسفل عتبة سلم يقف فوقها حبيبان في قبلة ساخنة.
حارة لئيمة وخبيثة وناعسة وحبيبة، تعلمك أنه لا يختفي بها وفيها سر أو شيء وأن طال كتمانه واختفائه، تعلمك أن العمر واحد والرب واحد والمكتوب حتمًا تشوفه العين، تعطيك نصيحتها الخالدة: نصيبك في الدنيا لازم يصيبك، وتضحك عليك وتسخر منك وأنت تعتقد أنك استطعت أن تفهمها وتمسكها وتقبض عليها، تفضحك وتجرّسك وتلم عليك العالم إذا غدرت بها أو كرهتها أو تزوجت عليها.
***
ولقد حمل نجيب محفوظ كل ذلك وخاض به الحياة، خاضها ببراءة الأطفال وطموح الملائكة ودهاء الشياطين وتقلبات الساسة وحكمة العجائز وتهور الفتوات، وكتب عليه المغامرة والمقامرة وامتطاء المستحيل، فتعلمنا منه أن الأدب مجاهدة وعزيمة وصبر وحب ودأب، لذا كان في محرابه ومكتبه وعمله كالمتصوف، فهو المثابر والمهابر والصابر، حتى تكتمل فكرته على الأوراق، يقدم لنا فيها شخصيات من لحم ودم، وأماكن نراها لأول مرة في كل مرة نقرأه فيها مع إننا نمر على تلك الأماكن كل يوم.
هو الكاتب المدهش الفذ المُولع بتفاصيل ودقائق الحياة، وطقوسها، الصغيرة والكبيرة، التي نستطيع أن نمسكها والتي لا نستطيع أن نحس بها، انه يجسدها ويكتبها على أوراقه، فتأخذك لغته الشعرية، وحواراته الذكية، وأسئلته العميقة، وشخصياته المحورية والثانوية والهامشية، الكل بطل، والكل تحت سيطرة قلمه وفكره، لا أحد يشت أو يهرب، لذا جاءت رواياته مكتملة البناء، مكتملة بالفكر الذي يريد طرحه وتوصيله، للقارئ في رواياته وللمشاهد في أفلامه.
نجيب محفوظ مرتبط بالقاهرة القديمة ووفي للزمن القديم، دخل معه في أحلى حالة عشق للماضي كي يرى مستقبل مصيره ومصير أمته وشعبها، لذا ظلت القاهرة العتيقة محور حبه ومنبع ألهامه وسبب شهرته، ظل مشدودًا إلى الحواري والأزقة والأقبية، يعشق العرق على الأحجار والثرثرة على درجات السلالم والجهاد على تراب تلك الحواري، ويحب أن يتشمم أنفاس بشرها، لقد جعل من الحارة صميم الجوهر، وقلب لجسد الوطن، وعقل للأمة العربية، تري فيها قدرة الخالق وعظمته وعبث وجنون عبيده، ترى فيها أعماق بشرها وتقلبات مخلقاتها، لقد علمنا وجعلنا ندرك ونفهم ونشم ونحس بالواقع، وأن نرى ما لا يمكن أن تلحظه عين أو يدركه سمع، ونشعر بالزمان ككائن، ذلك الزمان الذي يفرق ويجمع، يحب ويكره، يقف ويتطور وينمو، مع تطور الشخصيات وتطور طموحاتهم.
ونجيب محفوظ كان على رأس المجاهدين الذين يؤمنون برسالة الأدب، فهو رجل يحب العلم ويحب الناس ويحب الحياة، والأدب عنده وسيلة من وسائل التحرير الكبرى والعلم لديه أساس الحياة الحديثة، مؤمن بأنه ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف ويكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر، لذا كان حريصًا دائمًا على تطوير أدواته ولغته ومفرداته حيث يمزج العامي بالفصحي، والمرئي باللا مرئي والتراث بالواقع والخيال بالجنون.
نجيب محفوظ صاحب الوجه الذي طالع الدنيا لما يقرب المائة عام، ومع أن الدنيا لا تدع وجهًا سالمًا قرن من الزمان، ألا أنه ضحك على الزمان برواياته كي تظل حية وشهية ومتجددة دائمًا، تقدم لك نفسها في كل مرة تقرأها فيها، وكل مرة تعطيك وجه وحكاية وروح جديدة، وهذه ميزة الإبداع وميزة نجيب محفوظ، أنه متجدد دائمًا، يجعلك تعيش مع أبطاله وشخصياته وحواراتهم، يجعلك في مكان واضح ومتجسد، يجعل القارئ يعيش تلك اللحظات في أي مكان وزمان، داخل غرفة لوكاندة ميرامار أو مع التجار والباعة الجائلين والميني فاتورة في حواري الحسين والأزهر والجمالية أو بين بشوات وبهوات قصور السكاكيني والعباسية والزمالك، أو وسط حجرات الموظفين في الدواوين الحكومية، أو تجار المخدرات في الباطنية والدراسة أو بين قصور قادة الأمة في المنيرة ولاظوغلي ومجلسي الشعب وقيادة الثورة، تعيش مع المسجونين والباحثين عن الحرية في معتقلات الكرنك والقلعة ووادي النطرون، أو وسط عوالم وآلاتية شارع محمد على، لذا كان يضحك ويقول دائمًا: كلما امتلأت الدنيا بالأطفال والمعتوهين والمجانين وتجار المخدرات والبائعين الجوالين والمتسولين وماسحي الأحذية: فالدنيا ما زالت بخير، ويكمل: وسوف ينصلح حال البلد عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.
واليوم لا تجد هذه الذكريات من يتذكرها أو يكتبها بتلك الرائحة وهذه الروح، رحلت الحارة لأن كاتبها ومؤرخها رحل، فأصبحت الحارة حزينة لرحيله لأنه كان من عشاقها المخلصين، والحياة بها متوقفة لأنه كان حبيبها الأثير.
هذا الحبيب الذي أحبته الدنيا بصدق، لأنه كان يحب أن يكون أديبًا وليس أي شيء آخر، فأعطته ما لم تعطه لأي أديب آخر، الشهرة والوصول إلى أكبر قاعدة من الجماهير والقراء، أمدته بشرايين التوصيل والتواصل عبر العين والأذن، عبر الورقة والشاشة، لم تبخل عليه، قدمت له كل شيء، الكتاب في يد القارئ والفيلم في السينما والمسلسل في التليفزيون والحدوتة في الإذاعة، المرئي والمكتوب والمسموع، وإذا كان محفوظ قد رحب بالموت وبالنهاية في معظم أعماله، لذا فأن الآخرة تعشقه بجدارة.
نجيب محفوظ المجاهد في محراب الأدب، المتعبد في معابد الكتابة وفروعها، المخلص كما لم يخلص أحد، المواظب عليها كما لم يواظب أحد، المنجب منها كما من الروايات كما لم ينجبه أحد، والذي نال شهرة لم يسعى إليها وكما لم يشتهر أحد، بل هى التي سعت إليه وطاردته.
ولأنه مؤمن بعمله فقد كان مؤمن أن الأدب بقدر ما تعطيه وتحبه يعطيك أيضًا ويمنحك ويحبك، إلا أنه ظل خلال أعماله يطرح الأسئلة التي كانت تشغل باله وفكره، أسئلة بسيطة وعميقة، فهو دائمًا يتساءل: ما جدوى الحزن؟ وما فائدة السرور؟ وما مغزى القوة؟ وما معنى الموت؟ لماذا يوجد مستحيل؟ وماذا يحدث بحارتنا اليوم – نعم – لقد أهلك الموت الحارة المصرية، لكنها باقية لنا في كتابته ورواياته وشخصياته التي نقرأها ونراها ليل نهار.
نجيب محفوظ: المُعلم الأول في درس الرواية العربية، معلم لا يعنيه في عمله وعلمه إلا الإتقان أولاً وأخيرًا، فهو رزقه وزوجته وما يصنعه أبناءه، ومن خلال هذا الاتقان كان يري المدارس الأدبية كلها ويرى تحولاتها الكبرى، لذا صنع أثاث وأعمدة الرواية العربية، ووضع الأساس القوي والحقيقي لها، أساس متين يتحمل كل أشكال البناء والزخرفة والحداثة وما بعد الحداثة الروائية، لقد أهّلَ محفوظ اللغة العربية لذلك أصبحت كقوالب الطوب في البناء المعماري الروائي العربي، لأن الرواية تجربة لغوية وشكلية قبل أن تصبح تجربة في القص وفي الحكاية وفي المزيج الروائي، ليصبح لنا الرواية التي تكسر القيود وتحاول أن تصنع واقعًا من حطام الواقع، ومنها أهدى لأمته أعمالاً خالدة ورائدة في فن الرواية، من شأنها أن تجلو المضمر من تاريخ الحارة المصرية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الحارة في كل مدينة عربية، فلا يوجد فرق بين حارة القاهرة أو الرباط أو بغداد أو دمشق، ومن هنا نبهنا مبكرًا إلى خصوصيتنا العربية، ورائحتنا الخاصة، وأن الأدب هو كبد الحقيقة المرة، لذا أصلت رواياته للإبداع العربي، ورفعت عن كاهل الأدب العربي حالة الغبن والضعف والاستنساخ والاقتباس، وأصبح أدبه هدفًا يسعى إليه كل من يستخدم الحرف وسيلة للتعبير عن نفسه، والكلمات في صنع جملة لها خصوصيتها العربية.
نجيب محفوظ: صاحب الوجه الأسمر المتفائل الباسم، والذي لم تفارق النكتة شفتيه، يقدم النموذج العالي في قوة الاحتمال، وفي الصبر على الاستماع وفي تشجيع الحوار، الذي يسأل أكثر مما يجيب، لذا اشتهر أنه كان صامتًا ومقتصدًا في الكلام، فهو مؤمن بأن الذين يتكلمون كثيرًا يبددون طاقتهم في الثرثرة وفي التخلص مما كان من شأنه أن يتحول إلى أعمال إبداعية أو نقدية على درجة عالية من الكمال، لذا كان لا يتحدث إلا على الورق ومن خلال أماكنه وأبطاله وأشخاصه، يجسد صورة الإنسان الرقيق الحساس الذي يلوذ بأوراقه وكتبه ويقترب من عالم المتصوف بكل ما يزخر به ذلك العالم من إخلاص للعمل وزهد عن الملذات وعزوف عن المظاهر والتزييف والشهرة المجنونة، فلم يتطرق الغرور إلى نفسه يومًا.
نجيب محفوظ المتطور دائمًا والذي استثمر في رواياته مختلف الأساليب والتقنيات، من تيار وعي إلى الفلاش باك السينمائي إلى الأصوات المتعددة في الرواية إلى طريقة وجه النظر، وإلى الحكاء المسيطر على نصه وأبطاله، وإلى الأسلوب الغرائبي والعجائبي، وإلى استحضار التراث في العمل الروائي برؤية جديدة للواقع المعاش، فهو ومنذ البداية يتوجه برواياته إلى قارئ عربي قد لا تبهره الحداثة والتقنية بقدر ما تبهره صدق الرواية وواقعيتها، لقد جسد هذا الروائي الفذ بشكل دقيق عالم الطبقة الوسطي التي ينتمي إليها، مقربًا مناخها وملامحها من وجدان القارئ العربي في أي قطر كان، فأي قارئ في أي مكان عربي لا يشعر بالاغتراب وهو واقع ومنغمر في أجواء وأحداث رواياته.
أنه قادر في اللحظة التي تفتح فيها غلاف إحدى رواياته أن يأخذ بيد قارئه ويقوده وسط أزقه القاهرة ومقاهيها وأضرحتها وحواريها الشعبية، بل إنه يجسد أجواء المدينة العربية الإسلامية بكل خصوصيتها، ليصبح ما فعله النموذج التطبيقي والأساسي لكل روائي عربي.
واعتقد أن روايات نجيب محفوظ سوف تكون الدليل والمرشد لمجموعة كبيرة من الأثريين وعلماء الآثار، لأنها بمثابة خرائط مصورة ورسومات توضيحية لأماكن حقيقة أخذة في الاندثار، إن التنقيب عن الحارة المصرية يبدأ وينتهي عند نجيب محفوظ، تلك الحارة التي بدأت تضمحل وتغيب شخصياتها وأماكنها، وتذوب ملامحها بفعل التطور والتمدن الحديث.
وإن تجسيد الحارة في أدب محفوظ هو تجسيد لظاهرة اجتماعية قديمة في الشرق، وهى قيام الإمبراطوريات وسقوطها بعوامل تظهر داخلها، لقد استطاع تسجيل هويتنا القومية روائيًا، ما أدى إلى وصولها للعالمية، لذا كانت روايته محلية بنكهة شعبية بأنامل مصرية وروح عربية، روايات ترى فيها رؤية كونية، ورؤية لتحولات حارة من الحارات في زمن منقرض، حيث تنمو قيم وتتبدل قيم، ويظهر بشر بدل آخرين، وتقام أماكن فوق خرائب، وتظهر زعامات جديدة بدلا من الآيلة للسقوط أو التي انسحقت بفعل وباء السلطة أو الانقلابات أو الثورات.
وفي النهاية نصل إلى حكمة واحدة من كل ذلك: أن كل من يحاول أن يقترب من عالم الرواية الآن، عليه أن يضع دائمًا تجربة نجيب محفوظ الروائية نصب عينيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.