رغم أن الله ليس بمسألة تُبحث وتُحل بالعقل المجرد، فإنه لم يدَع نفسه بلا شاهد، على حد تعبير الرسول بولس. إن آثاره في الكون وفي الإنسان تنبئ للعقل الإنساني عن وجوده. ولا أعني هنا بالعقل، العقل المجرد الذي هو كما رأينا جوهر وهمي. إذ إن العقل البشري ليس بطاقة مستقلة إنما هو متأصل في كيان حي ويتأثر بالمواقف الوجودية التي يتخذها هذا الكيان. "آثار" الله علامات لا يخاطب بها العقل المجرد، بل الشخص العاقل الذي يمتد كيانه كله، بشفافية تامة، إلى الحقيقة المطلقة، مستعداً للتخلي عن "حقائقه" الخاصة لاقتبالها، متأهبًا لإخضاع حياته لها إذا انجلت له. تلك "السبل إلى الله" تهدي الإنسان دون أن تغتصبه اغتصابًا. فالله، إله الإعلان الكتابي، شخص حرّ يرغب في لقاء حر مع الناس. وسنستعرض فيما يلي بإيجاز بعض هذه الآثار التي تهدي إلى الله: أ- تسلسل العلل: كل ما يجري في الكون نتيجة لسبب أوجده. وهذا السبب هو بدوره نتيجة لسبب آخر وهلم جرّا. إذا أخذنا مثلا حيواناً وتساءلنا: لماذا هذا الحيوان حي؟ ما سبب استمراره في الوجود؟ رأينا أن لذلك أسباباً متعددة، منها ضغط الهواء وحرارته، ومنها المواد الكيماوية التي يحويها الهواء، ومنها الأطعمة التي يتناولها الحيوان وهلم جرّا. ولنختر الآن من بين هذه الأسباب العدة أحدها، مثلاً الأطعمة، ولنتساءل من أين تأتي المواد الغذائية التي تحفظ حياة هذا الحيوان؟ ما سببها هي؟ فنرى أن بعض هذه المواد - وسنتوقف عندها - أعني النشوية، وهي التي تحرك جسم الحيوان وتعطيه القوة والنشاط، لا يمكن أن تأتي في النهاية إلا من النباتات. وهنا نتابع تساؤلنا فنفتش عن سبب وجود هذه المواد النشويّة في النباتات فيتضح لنا أنها تتكون من اتحاد الكربون بالمواد الكيماوية التي تمتصها النباتات من الأرض بواسطة جذورها. ونتساءل من أين يأتي هذا الكربون؟ فيجيب العلم أنه يأتي من تحليل الحامض الكربوني أو ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء ولكن كيف يتم هذا التحليل، ما هو سببه؟ إنه يتم بتأثير مادة الكلوروفيل الموجودة في النبات. ولكن من أين للكلوروفيل هذه الطاقة على تحليل ثاني أوكسيد الكربون؟ هنا يظهر البحث العلمي أن هذه الطاقة مستمدة من الطاقة الشمسية. وبقي علينا أن نتساءل من أين تأتي طاقة الشمس هذه؟ فتجيبنا إحدى النظريات العلمية أنها ناتجة عن تفكيك ذرات الهيدروجين في الشمس. وهنا لا بد للعقل أن يتساءل عن السبب الذي يحدث هذا التفكيك وهذا السبب يستدعي بدوره سبباً آخر وهلم جرّا. وهكذا حيثما انتقلنا في هذا الكون نجد سلاسل مرتبطة حلقاتها ارتباطاً متينا. العلم يتوقف عند اكتشاف هذه السلاسل ووصفها ومحاولة إضافة حلقات جديدة إليها. ولكن الفكر الإنساني لا يسعه أن يقف عند هذا الحد، لأنه بطبعه متعطش إلى تفسير أعمق وأشمل. لذلك فعندما نتأمل في تسلسل الأسباب نرى أنه يفترض عقلياً وجود سبب أول تستند إليه كل سلاسل الأسباب والا فقدت كل هذه السلاسل مبرر وجودها. لنأخذ مثلاً على ذلك. آلة مركبّة من دواليب كثيرة يحرك أحدها الآخر. فكل من هذه الدواليب يستمد حركته من دولاب آخر. ولكن مهما كثر عدد الدواليب، وحتى لو افترضنا أن العدد غير متناه، فهذا لا يمنع أن تكون حركة كل من الدواليب وحركة الآلة كلها مستمدة من مصدر طاقة هو في الواقع السبب الحقيقي لحركة الآلة كلها. هذا المصدر اذا ألغيناه تتوقف الآلة حتما لأن الدواليب، مهما تعددت، تصبح من دونه عاجزة عن نقل أي حركة. هكذا العلم يكتشف دوما أسبابًا جديدة يضيفها في سلاسل الأسباب إلى الحلقات المعروفة قبلاً. ولكن مهما امتدت هذه السلاسل وتعقدت فهذا لا يغني عن مصدر تستمد منه الأسباب كلها وجودها وفاعليتها. تسلسل الأسباب في الكون يستدعي إذن وجود سبب أول. ولكن ماذا نعني بعبارة "السبب الأول"؟ إننا لا نعني بها أولية في الزمان كما يتصور البعض من أصحاب المثل المشهور: من أين أتت هذه البيضة؟ - من دجاجة. والدجاجة؟ - من بيضة. والبيضة هذه؟ - من دجاجة الخ... حتى الانتهاء إلى هذا السؤال: والبيضة الأولى؟ أو الدجاجة الأولى؟ كلا، ليست القضية في جوهرها قضية تسلسل زمني والا لما كان لها حل عقلي لأن لا شيء يمنعنا منطقيًا من أن نرتقي هكذا من بيضة إلى دجاجة ومن دجاجة إلى بيضة إلى ما لا حد له. القضية تسلسل كياني، جوهري، تسلسل الارتباط والتبعية كما اتضح لنا من مثل الآلة المذكورة آنفا. إن النتيجة الفلانية مرتبطة بالسبب الفلاني وهذا بدوره نتيجة لسبب آخر، فهذا يعني أن ليس أحد من هذه الأسباب سبباً مطلقًا، لأنه يستمد وجوده من غيره لذلك يقتضي وجود سبب مطلق، منه تنبع كل هذه الأسباب الجزئية ومنه تستمد في كل لحظة، ليس فقط في الماضي بل في الحاضر وفي المستقبل أيضاً، وجودها وفعلها، كما أن دواليب الآلة تستمد في كل لحظة حركتها من الطاقة المحركة. ولكن الفرق بين تلك الطاقة التي تحرك الآلة و"السبب الأول" الذي ذكرناه هو أن تلك الطاقة المحركة هي أيضاً سبب جزئي يستمد وجوده من آخر، ولذلك ليست الا صورة لا تفي بالقصد عن"السبب الأول" الذي لكونه سبباً مطلقاً يختلف بطبيعته كل الاختلاف عن الأسباب الأخرى إذ هو ينبوع كل وجود فيما لا تستمد الأسباب الأخرى وجودها إلا منه. وهو متميز عنها جوهرياً، متعال عنها كل التعالي ولا يعقل أن يكون هذا السبب المطلق عنصراً من عناصر الكون لأن كل عناصر الكون متشابهة، متجانسة في طبيعتها، ولا يعقل أن ينسب الإطلاق لبعضها دون الآخر. لذا لا يمكن أن يكون السبب المطلق إلا جوهراً متعالياً عن الكون وهو ما نسميه الله. أودّ أن أضيف شيئاً إلى هذا السبيل العقلي الأول إلى الله. إذا كانت القضية، كما أوضحنا، قضية ارتباط كياني فإن هذا الدليل لا يفقد قوته ولو افترضنا أن سلاسل الأسباب الجزئية امتدت في الزمن إلى ما لا نهاية له. ولكن هذا الافتراض نفسه يصطدم ببعض نظريات العلم الحديث التي تؤول إلى الاعتقاد بأن الكون له بداية زمنية. فنظرية "توسع الكون" تقول بأن الكون بدأ بالامتداد انطلاقًا من ذرة كبيرة أولى كانت تتمتع بقوة إشعاعية وأن هذه الذرة انفجرت في لحظة ما فولّدت الكون في امتداد مستمر متزايد عبر الزمن. أما نظرية فقدان الطاقة فهي تقول إن الطاقات في تحولها بعضها إلى بعض تفقد شيئاً من ذاتها بشكل رواسب حرارية. يستنتج من ذلك أن مستوى الطاقة في الكون في تدن مستمر وأنه ستأتي لحظة تفقد فيها الطاقة تماماً. ولكن هذه الطاقة التي تنتهي شيئاً فشيئاً لا بد أن تكون قد بدأت، وإلا وقعنا في تناقض منطقي بتأكيدنا من جهة أن هذه الطاقة لا متناهية (إذ إنها لم تبتدئ) ومتناهية (لأنها تنتهي). من خلال هاتين النظريتين وغيرهما يطرح العلم الحديث مسألة ابتداء الكون منذ زمن يقدّره البعض بين عشرة مليارات ومائة مليار من السنين. وهذا ما يقودنا إلى عتبة سؤال جوهري: إذا كان الكون قد بدأ، فمن الذي أدخله إلى الوجود؟ وهنا لا بد لي من التنويه بالاعتراض الذي يبديه البعض بقولهم: قد يكون أوجد ذاته ولكن هذه العبارة فيها تناقض منطقي إذ تفترض أن وجوده كان سابقاً لوجوده. أما "السبب الأول"، الله، فلا يقال عنه إنه "أوجد ذاته"، لأنه بحد ذاته الوجود المطلق، أو ما كان يسميه الفلاسفة الأقدمون "واجب الوجود". ب- نظام الكون: ومن جهة أخرى نرى أن الكون يسوده نظام وترتيب. ذلك أن أحداثه كلها تجري بموجب نواميس محددة وشرائع ثابتة وهذا ما يجعل من العالم "كونا"(cosmos) أي مجموعة مرتبة ومنظمة وليس "فوضى"(chaos). وهذا هو أساس قيام العلوم، لأن العلم يقوم على افتراض وجود نواميس ثابتة في الكون، حتى إن الفلكي يمكنه أن يعيّن بالتدقيق الزمن الذي سوف يحدث فيه خسوف قبل حصوله بألف سنة، معتمداً على قيام نظام ثابت في الكون لا يتغير مع الزمن ولكن كيف يُفسَّر هذا النظام؟ أحداث الكون تسير بموجب نواميس، ولكن من رسم لها هذه النواميس؟ "الأحداث الطبيعية تخضع لشرائع ولكن من المشرّع؟" (أندرونيكوف). ليس عند العلم جواب عن هذا السؤال، لأنه يلاحظ وجود النظام في الكون ويبني عليه أبحاثه وتطبيقاته، ولكنه يقف عند هذا الحد، فليس من خصائصه أن يوضح مصدر هذا النظام. العلم يصف النواميس، فيفسر لنا هكذا "كيف" تسير أحداث الكون، ولكنه يبقى ضمن نطاق "الكيف" ولا يتعداه إلى مجال "اللماذا". ليس من خصائصه أن يتساءل عن أصل هذه النواميس. ولكن الفكر الإنساني المتعطش إلى الأجوبة النهائية ينفذ إلى أبعد من ذلك. إنه يتساءل عن واضع النظام للكون، عن مشرّع نواميسه. إن نواميس الكون تفسر أحداث الكون ولكنها هي بحاجة إلى من يفسرها. هذا ما يتضح خاصة عندما نرى هذه النواميس تعمل وكأنها موجهة نحو غاية وهدف. إن الحياة بشتى مظاهرها تضعنا أمام هذه الغائية التي تتجلى مثلاً في غرائز الحيوانات وفي تركيب أجسامها. إذا شئنا أن نبني قصراً علينا أن نضع بضعة ملايين من الحجارة كل في مكانه ولكن تركيب أقل عضو من جسمنا يتطلب ترتيب مليارات من الذرات بموجب تصميم وهدف. فهل ندّعي بأن الطبيعة أعطت لذاتها هذه النواميس ورسمت لذاتها أهدافًا؟ ولكن أنى للقوى غير الواعية التي تتألف منها الطبيعة أن تعطي ذاتها نظاماً وغاية، اللهم إلا إذا عنينا بالطبيعة ليس تلك المجموعة من القوى الآلية التي يحللها العلم، إنما جوهر صَنَعَه فكرُنا ونسب له صفات إلهية ليستعيض به عن الله. هكذا يبدو لنا التناقض الكامن في موقف الطبيعيين فإنهم من جهة لا يرَون في الطبيعة إلا مجموعة من القوى الفيزيائية والكيماوية العمياء ومن جهة أخرى ينسبون لهذه المجموعة فكرًا موجِّهًا يوجد نظامًا ويسعى إلى أهداف. إنهم من حيث لا يدرون يبنون لاهوتاً ولكنه، على حد تعبير EtienneBorne، أسوأ لاهوت، لأنه مبني على تناقض صارخ. أما إذا شئنا أن نتحاشى هذا التناقض، فعلينا أن نقرّ بوجود فكر خلاق يفسر وحده نظام الكون وترتيبه وغائيته. من دون هذا الفكر لا يمكن لقوى الطبيعة، مهما كانت جبارة، أن تنظّم الكون، كما أن سائق السيارة إذا عُصبت عيناه لا يمكن أن يقود سيارته بشكل مرتب مهما كانت جودتها. هذا الفكر الخلاق الذي ينظّم الكون ندعوه الله.