كان عرفات القائد وهو طالب، وكذا عندما كان ضابطاً في جيش الجهاد المقدس وعندما أصبح رئيس رابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة، وكذلك عندما شارك ضابطاً في صد العدوان الثلاثي. ولم تغب القيادة عنه للحظة وهو يشارك في تأسيس حركة فتح، كان القائد وهو في المغارة، وعبر الآفاق الأممية على منبر الأممالمتحدة، وهو القائد في كل منعطفات حياته وأكنافها، لم يغضب لنفسه .. لشخصه، غضب لفلسطين وفقط لفلسطين. عاش مؤقتاً .. ومات مؤقتاً .. ودُفن مؤقتاً، حتى غيبوبته كانت مؤقتة. آمن إيماناً تصل لدرجة المطلق بما قاله أبراهام لنكولن يوماُ "يجب أن تموت العبودية لتحيا الأمة". ( 1 ) حقاً .. لماذا رحلت مبكراً يا أبو عمار؟ أيها القائد الفدائي .. لماذا رحلت .. وشعبنا أحوج ما يكون إلى إرادتك / وتفاعلاتها المبدعة والخلاّقة؟ .. لماذا رحلت وتركت الميدان لأم حميدان؟ .. هكذا كانت تقول جدتي عندما ترنو إلى الميدان (حراثة الأرض ..، أو بذر البذور ..، أو الحصيدة أو دّرْس الحب في الجرن أي البيدر، أو التحميل والتنزيل في البايكة أي مكان حفظ الحبوب .. إلخ .. إلخ) ..، نعم .. كانت تراقب الأوضاع .. وعندما تجدها ليست سليمة (كما ينبغي)، بل ولا تمت بصلة إلى الصحة أو الصوابية ..، وترى أن القائم على الأمر ليس بصاحبه من قريب أو بعيد ، كانت تقول لمن يستحق أن يُسْمَع القول : وين رحت وتركت الميدان لأم حميدان؟ .. أقولها من أعماقي في ذكرى رحيلك السابعة حيث رحلت إلى ملكوت السموات العلى .. حيث خير سفراء الثورة الفلسطينية والعربية والأممية قادة وشهداء الحرية عبر التاريخ من أمم الأرض جميعاً.
( 2 ) أعي أنك رحلت لأنك لم تستطع معنا صبراً ، . في يوم من الأيام تم الاعتداء على صلاحياتك .. فقضموها قضمة قضمة / أراهن بحياتي أنه كان مخططا مدروسا .. دُبِّر بليل في العواصم اللا صديقة، وإلا كيف ينجح مخططهم هذا ..، لو كنا يداً واحدة .. وعلى قلب رجل واحد! .. ، ولكنها ، إرادة (بوش الابن) التي فسرت سفينة السلاح كيفما أرادت الصهيونية التفسير ! ، ولا غرو في ذلك ..، فلقد أعطت وأكدت أن العراق الشقيق يستحوذ على سلاح الدمار الشامل .. وثبت عكس ذلك ولكن بعد أن ارتكبت الإمبريالية العالمية بزعامة الإدارة الأمريكية أضخم "هولوكوست" في تاريخ المنطقة المدوّن، بعد قتل (1.400.000) شقيق عراقي على الأقل. وأعي أيضاً .. أنك (على الأرجح) من مواليد الرابع من (أغسطس آب/1929) وكان رحيلك في مثل هذا اليوم عام (2004)، أي لقد جاوز عمرك ثلاثة أرباع القرن بقليل ..، وهذا عمر يُؤَهِل صاحبه غالباً للرحيل في منطقتنا ..، فما بالنا .. ولقد كنت جمل المحامل .. وكنت الفدائي القائد وكنت الأخ الكبير وكنت الأمين على المستقبل .. وكنت صاحب الصلاحيات شبه المطلقة ولكن بروح الأبُوة الحانية على الجميع ..، كنت قائداً عظيماً ولم تكن حاقداً صغيراً لم تمنع أحداً منا أن يقول لك ( لا كبيرة) ، على العكس احتضنت كل اللاءات .. واستفدت منها .. استفدت ممن عارضوك / وممن أيدوك، ووظفت واستثمرت كل ذلك في خدمة القضية الوطنية، رافضاً أن تكون لك شلة .. لأنك صاحب ذهنية المأسسة التي ترفض أن تكون لأحد على حساب الآخر، كنت ترى التيارات في حركة فتح تموج يميناً ويساراً ولكنك كنت تمسك دوماً بشمال البوصلة الوطنية الثورية، رفضت اجتثاث أحد ورفضت بصيغة أشد الدعاوي المكارثية وكنت نعم القبطان .. نعم الربان في قيادة سفينة الثورة الفلسطينية في لج المحيط الهادر، وكنت دوماً ترسو بهذه السفينة أنى أثرت مصلحة الثورة الفلسطينية. لم تكن قائداً لحركة فتح فحسب بل كنت قائد الثورة الفلسطينية، بما تعج به من ثوار الأمم جميعاً. آمنت بالوحدة الوطنية وكأن لسان حالك يقول إن اللملمة الوطنية هي ظاهرة ثورية .. فما بالك بالحشد الحركي الفتحوي، كنت تعي وتعمل منطلقاً من إيمانك بأن (حركة فتح) القوية هي مركز ثقل وضع القضية الوطنية على الخارطة وتجميع محصلة الانتصارات الصغيرة. ( 3 ) أعود بإصرار لسؤالك أخي أبو عمار .. لماذا رحلت؟ ..، وما سر قبولك الرحيل؟ . وإن وافقت أم لم توافق لماذا رضينا برحيلك؟ . صدقاً / رحلت ونحن أحوج ما نكون إليك .. أحوج ما نكون إلى القائد الفدائي خاصة بعد رحيل المؤثرين من جيل المؤسسين والغالبية العظمى من الطلائعيين الأُوَل . لقد أخطأنا خطأً لا يُغْتَفَر عندما قبلنا بهذه النتيجة، وها نحن القضية الوطنية الفلسطينية (أيضاً وشعباً وثورة) ندفع الثمن. راكمت يا أبا عمار القيادة / الإنجاز تلو الإنجاز .. وكنت القائد المقتدر على البذل والعطاء .. كنت النموذج الفذ للقائد الميداني الذي يُحسن استعمال أدوات تفعيل العنف الثوري ممثلاً بالعمل الفدائي من متفجرات إلى قطع التسليح الفردي كافة / بهدف التجسيد الميداني للروح الفدائية .. وهي ليست إلا الخليط المثلث المتفاعل ما بين [الفكرة + الإنسان + السلاح] ..، هكذا كنت أيها القائد الفدائي .. كنت تعرف تمام المعرفة أن سقوط ضلع من المثلث (وهو المهندس) يجعله زاوية ليس إلا. لهذا عرف ياسر عرفات" الضرورة الحتمية الأولى للعمل الفدائي أو حرب العصابات أو حرب الغوريلا .. حرب "اضرب واهرب" .. أو أي تسمية من تسميات الكفاح المسلح وصولاً لحرب التحرير الشعبية .. وجعلها سر وجوده في هذه الدنيا وسر ديمومته ..، ولم يُسقط من حساباته النضالية (قط) أن "حرب الشعب" هي إستراتيجية وليست تكتيكاً .. حتى إنجاز ما انطلقت من أجله الثورة (1/1/1965) . ( 4 ) شاهدناه وعرفنا جَلَده في الدوريات العاملة خلف خطوط العدو .. وافتقدنا الكثير من الإخوة ونحن هناك ..، افتقدنا ما بعد .. بعد العواصم، حيث لم يعرف معظم هؤلاء .. بل أغلبيتهم الساحقة النوم (ولو ليلة واحدة) في المُغُر (جمع مغارة) ..، ولم تأكل جلودهم حشرة "الدَلَم" .. ولم تسبب لهم الإسهال المائي الشديد والدوار ..، ولم يعرفوا قصة الحجر الطري!! ..، ولم يعيشوا لحظات الخوف ..، نعم الخوف بكل معاني الكلمة ..،. وكنت أيها الفدائي القائد .. في مقدمة الصفوف ..، لا تمل ولا تكل ..، ومنذ عرفناك .. عرفنا أن دوامك اليومي والليلي مفتوح على مصاريعه .. كنت تصادر أعمال الغير .. هذا صحيح .. ولكن هذه المصادرة كانت تتم .. لمن لا يمارس عمله كما ينبغي ..، نعم لم يكن لك دوام .. فدوامك مرتبط تمام الارتباط بحاجة الثورة إلى عملك ..، آخر مكالمة لك .. قبل رحيلك عن دنيانا التافهة .. كانت مع وزير المالية تلاطفه لكيلا ينسى رواتب أهلنا في لبنان (!!!) وذهبت في غيبوبة بعد المكالمة إلى ملكوت السموات العلى ..، ولم تعد . لقد قال المغرضون ما قالوه في حياتك قذحاً في ذمتك المالية .. (!!!) / ورحلت وعرف القاصي والداني .. أنك لم تترك أي عملة ما .. لِتُوَرَث لأهل بيتك ..، ولست أدّعي علماً شمولياً ولكنني أضرع إلى الرب داعياً وآملاً أن يكون الجميع منا على شاكلتك ..، فلم يسمع أحد أن لك بيتاً أو شركة أو قصراً .. في هذه العاصمة أو تلك . ولم تترك لابنتك رأس المال الذي تبيع فيه وتشتري أو تصفي أموالها في ديار وتنقل لأخرى ،. حقاً أتساءل مع ملايين الشعب الفلسطيني هل كان الانقلاب الأسود في غزة ضد الشرعية الوطنية الثورية الفلسطينية .. هل كان سيفكر فيه أصحابه، طبعاً لا وألف لا ولكن هذا الانقلاب كان إحدى القراءات الخاطئة لفكرة انتخابات عام 2006 في موعدها، وهذه أيضاً وليدة الخطأ الكبير والفاحش الذي أدى إلى انفجار حركة فتح من الداخل، وذلك عندما أذنت قيادة "فتح" إجراء انتخابات البرايمرز، ولا يغيب عن عقلاء القوم من أبناء فتح أن حادثة إطلاق النار ومحاولة الاعتداء على الأخ / أبو مازن في بيت عزاء الأخ / أبو عمار في غزة، وعدم متابعة وعقاب الفاعلين ومن ورائهم قد شكل الأرضية لكل ما سبق . حقاً لو كنت أخي القائد حياً لما حدثت كل هذه الأمور، جملة وتفصيلاً، لقد احتضنت الجميع .. أكرر .. لقد احتضنت الجميع، وحتى بعد عودتك عام 1994 إلى الديار الفلسطينية فإن "اتفاق أوسلو" لم يلو ذراعك الثورية لقد قلت عنه، ممكن تكتب ضده ستة مجلدات .. ممكن تكتب لصالحه ستة مجلدات، وكذا قلت .. إذا كانت "أوسلو" نهاية المطاف فإنها الخيانة .. وإذا كانت محطة نضالية فإنها فعل ثوري، كنت تعرف الثوابت ولا تحيد عنها، ولن يستطع أحد أن يتلاعب بها، أردت التسوية السياسية ورفضت تصفية القضية، وأردت السلام الشامل والدائم والعادل، ورفضت الاستسلام، قبلت بالمفاوضات، لكنك رفضت بإباء وشمم التنازلات الرخيصة. لا أريد الحديث حول ما يدور حيال ما يطلق عليه المصالحة، على ما يبدو أن المصالحة في واد ونحن جميعاً في أودية أخرى. ( 5 ) حضرت مساء يوم أمس .. المهرجان الخاص (مؤسسة ياسر عرفات) لتكريم الإبداع الفلسطيني، وفازت إحدى فرق الفنون الشعبية بالجائزة الأولى .. وقدم ذلك الدكتور / العالم نبيل قسيس ..، وسلفاً أقول إن "ياسر عرفات" ليس لأعضاء وأنصار حركة فتح فقط ..، إنه كما أسلفت رمزية فذة وخالدة لأبناء قطرنا العربي الفلسطيني ولأبناء وطننا العربي الكبير ولأبناء الثورة العالمية، التي ستعود أقوى مما كانت، ما دامت الأزمات تضرب أعصاب وعقل الإمبريالية الرأسمالية .. هذا هو "ياسر عرفات" كما أفهمه. ومع ذلك أولى أن يقال الحق في هذا السياق .. / أولى لك فأولى .. ثم أولى لك فأولى / ، فليكن دولة رئيس الوزراء على المنصة، ولكن هذه اللوحة التقديرية (الجائزة) .. لا بد بل يتحتم أن تُسَلَّم من الأخ / رئيس الحركة ما أمكن لذلك سبيلاً .. أو نائبه أو من ينيبه / إذا كان هناك ظرف قاهر ولا أرى ظرفاً قاهراً يحول دون حضور ذكرى رحيل "ياسر عرفات" . "الختيار" رحل وترك البلاد بعده محل، ولا أريد أن أزيد في هذه الذكرى الأليمة .. ذكرى رحيل القائد الفدائي التاريخي .. أبو المراكمة وليس ابن المصادفة.