فى نهاية المنحدر حيث تتسرب الرمال بين يدى الصخور الصلدة، وحين يكون لهسيسها وخز الثوانى العابرة، كانت الذئاب واقفة تتشمم الهواء بعصبية، على مفترق أمر جلل، عاجزة عن التقدم للأمام خوف الانهيار، ورائحة الدم تنبعث بقوة تعبق المكان، فتكاد القوائم المتصلبة تنغرس فى الصخور، واللهث المتصاعد يقيم وليمة مبكرة، بينما الغزال الصغير على سن تبة عالية، تتساقط منها الحصوات الصغيرة وتهرب من تحت قدميه محدثة ضجيجًا مرعبًا، كان فى حركته حائرًا يهتز ويثبت، هو الأسرع وهم الأقوى، ذلك حين يقاس الفارق بين الحياة والموت بنصيب من اللاشيء، فرائحة الغزال الطرى زكمت الأنوف وسرت فى الدم.. لولا انحناءة أخيرة خطرة أداها الغزال برشاقة بينما الذئب الرئيس اصطدم بجانب الصخرة وخرج عن المسار لثوان قليلة لعب فيها دور الحائل للذئاب.. انتصب بعدها غاضبًا قلقًا بعد أن زاحمه ذئب شاب كاد يقبض قبله على مؤخرة الغزال، تلك الثوانى اخترقت الموت المتحفز، لكن رائحة الدم تزداد تهز أرنبة الأنوف، حتى فاقت رائحة الخوف التى كانت تنبعث من أعلى التل، بال الغزال خوفا فجنت الذئاب.. ورائحة الدم لا تزال تسرى فى شهيق كل ذئب، قلَّب الغزال وجهه فى السماء ينتظر صباحًا معاندًا، والذئاب التى قاست بتجربتها مدى احتمال الصخرة المهترئة جلست على قوائمها الخلفية قلقة، مطمئنة مدت أذنيها تنتظر سقوط الغزال تثيرها رائحة الدم فتؤرق الحواس، تسمع حركة الأمعاء وخفقان القلوب التى تضطرب بالنشوة، وتصنع هزة قوية للبراثن القابضة على الأرض.. رائحة حريفة أزاغت العيون المشتعلة بالرغبة، العيون التى تحولت إلى حرائق صغيرة راحت تتفرس فى جسد الغزال القريب.. آه من نداء الدم داخل العروق الخضراء النافرة، تنبض كل حين.. وآه من رائحة الخوف المتسللة من أذنى الغزال ومن عرقه المراق، وزوغان بصره لاختراق الظلام.. كانت الذئاب وفى صمت قد قررت ألا تتخلى عن الدم حتى لو جاء صباحه اللعين. بعد بداية التوتر تراخت شبه الدائرة التى أقامتها الذئاب مع احتفاظها بالترتيب المثالى فالرئيس فى القلب، والشباب الفتى حوله، بينما العجائز يتلقون عفار الطريق فى الخلف. استكانوا بعد أن أدخلوا فى حسابهم الطبيعة، فحاصل جمع الصخور الصغيرة المتساقطة من بين أصابع الغزال فى الزمن يساوى غزالاً فتيًا وبراثنًا قوية وغذاء مضمونًا.. لكن رائحة الدم بثت العشوائية فى الحركة.. صارت نفاذة اخترقت ما تبقى من أوصال وأعصاب وعروق.. حفرت البراثن فى الرمال والصخور كى تطفئ الرغبة تحول الغزال إلى خيوط خضراء متشابكة تلتقى وتتقاطع وتتفرع لخيوط صغيرة دقيقة. حرية الحركة سمحت للذئب العجوز الذى فى آخر شبه الدائرة أن تلمع عيناه ببريق التقدم، لم يغتر أبدا بالجهامة ولا بالجيد الأبيض للرئيس، تملكته قوة لم يكن يعرفها، عجوز بما يكفى ليعرف قوة انبعاث الدم وتدفقه.. وأن يفرق بين الدم المحبوس والدم المنساب.. وبين الدم الطاذج والدم المتخثر.. والدم النقى والدم الذى تلوث بالتراب، ومكانه فى الخلف أتاح له اكتمال الرؤية، فأطلق عينيه تدوسان القوائم الراسخة وتتحسسان ما بين الأظافر وانحناءات المفاصل، غرس عينيه فيما تحت الإبط، وأطلق أنفه تقيس لزوجة الدماء.. راحت.. وعادت حتى لمح الارتخاء والارتعاش، ورأى حبات العرق الخفيفة تتكون خلف الأذنين، زاحم حتى وصل، كان الأحمر القانى يختلط بالشعر الكثيف على المفصل ونتوءات حمراء صغيرة تلوثت بالتراب، دار ونظر فى العينين المتألمتين الحادتين، فتسرب إليه التحدى.. عدَّل الخطة سريعا وأسقط النظرات من حسابه.. مر به تاريخ طويل من الانزواء ورأى نفسه مندفعًا بقوة خلف غزال عفى لكنه أبدا لا يصطدم بالصخور.. كانت نظرة الرئيس مهددة فخشى الخزي.. تراجع وأرسل نظراته للجميع.. برقت الحرائق الصغيرة وازداد اللهيب بها.. كسروا التحدى فظهر الألم فى العيون المتألمة المتراخية.. أنة خفيفة مثقوبة بصوت الوجع صدرت عن الرئيس الذى اصطدم بالصخرة .. شبه الدائرة تكتمل .. غطت رائحة الدم على صوت الأرض المخصبة بالندى المتخيل.. دار الرئيس حول نفسه وذيله بين ساقيه.. يغطى جرحه بالرمال المتسربة من بين قدمى الغزال .. ورائحة الدم تأخذ هيئة الضباب فى العيون.. بينما الصباح يعتلى التل تدريجيًا.