كثير من الأدباء والمفكرين والفلاسفة يتزامن رحيلهم عن الدنيا مع أحداث سياسية عاصفة، فينشغل الناس عنهم لبعض الوقت بهذه الأحداث، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى أخبارهم وسيرهم وقصة موتهم وانفضاضهم عن الحياة الفانية، على غير ما يحدث للجبابرة والطغاة من قتل وعنف، وكأن الناس يتمنون خروجهم عن عالمهم ودنياهم لكي يعيشوا بعدهم بطمأنينة وسلام. أولئك هم العلماء والمفكرون والمصلحون يتمنى الناس العيش بينهم ويدعون لهم بطول العمر، والقلوب تتعلق بهم أبد الآبدين، وهؤلاء هم الخالدون. ومن المفارقات والعجائب أن يتزامن موت الصحافي الكبير والكاتب والفيلسوف من شمال الوادي أنيس منصور أو صلاح منصور، وهذا هو اسمه الحقيقي، مع مقتل العقيد الليبي معمر القذافي، فينشغل الناس بفيديوهات القذافي وماسورته وجثمانه الملقي في برادة اللحوم بمدينة مصراتة، عن وفاة أنيس منصور. وقيل إن الشاعر السوداني أحمد محمد صالح وهو شاعر العلم «علم السودان» والحب والعروبة غير محظوظ لكونه توفي في ذات اليوم الذي توفي فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر في عام 1973م، على الرغم من أن الشاعر أحمد محمد صالح كان عضوا بمجلس السيادة عند استقلال السودان إلا أن رحيل الرئيس عبد الناصر كان حدثا جللا ومدويا، ووقع على الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج وقع الصاعقة. ومن الصدف أنني وجدت ذكرى للقذافي في كتاب أنيس منصور «طلع البدر علينا» وقد أثبت الكاتب للقذافي حجه لبيت الله الحرام «وطلع البدر علينا من أهم كتب الراحل أنيس منصور»، لأنه يحكي رحلة الكاتب من الشك إلى اليقين، ومن التفكر في الكون والتنقل بين الأديان إلى رسو سفينته كليا عند الإسلام والرسالة المحمدية، بينما معظم ما جاء به أنيس منصور من أعمال جليلة أخرى هو عبارة عن ترجمة لمسرحيات وقصص ورحلات بما فيها كتابه الخالدون مائة أولهم محمد صلى الله عليه وسلم. قال أنيس منصور: قال لي فواز أمير مكةالمكرمة أنه عندما كان في السيارة مع الرئيسين السادات والقذافي قال للرئيس السادات: إن بعض الناس يذهبون إلي جبل النور وبتعذب كثير حتى يصلوا إلي غار حراء، ويبيتون فيه، مع أن هذا ليس من الدين في شيء، وقال له الأمير فواز أن الأخ أنيس منصور قد جاء أكثر من مرة حاجا ومعتمرا ليذهب إلى غار حراء؛ليكمل كتابا له وأخشى أن يفعل نفس الشيء. وقال له الرئيس السادات أعتقد أنه جاء ليتأمل ويكتب بعد ذلك، فقال الأمير فواز: فإذا ذهب وأقام في الغار؟ قال الرئيس السادات: إذا فعل ذلك ضعه في السجن. ويقول أنيس عن غار حراء: "من الذي يحاول أن يسير في نفس الطريق الذي سار فيه الرسول العظيم. في هذا الطريق إلى غار حراء سار الرسول أكثر من ألفي يوم طالعا نازلا متفكرا متأملا متألما، خفيفاً بصفاء روحه وثقيلاً بهموم قومه. وكل الناس يسمونه جبل النور، فمنه وفيه ظهر جبريل ومنه خرج نور يهدي الناس إلى سواء السبيل، إلى كلمة سواء، إلي ما هو أنفع وأرفع. الطريق صعب وأنا لم أستعد لهذا الصعود." ويقول: "وقفت عند سفح الجبل من الناحية الأخرى ولا توجد أية معالم لأحد قد صعد، ولكن من المؤكد أن كثيرين أشد إيماناً وأخف وزناً وأكثر حيوية قد صعدوا كالغزلان، ولكن ما الذي صعدوه؟ الصخور متقاربة كأنياب الجرانيت، مفتوحة لا أكاد أتقدم خطوة حتي أقع بين نابين، قدمي على ناب ويدي على ناب، وأمامي وورائي أنياب، والصخور نظيفة يمسحها الهواء أولاً بأول، وقد نصحني كثيرون بأن أخطو إلى الأمام ولا أنظر ورائي، فالطريق أمامي طويل صاعد عصبي لا يكاد ينحني يمنة حتى ينحني إلى اليسار وبحدة وشدة، وفي أول الطريق وليس هناك «طريق»." ويمضي في وصف صعوده لغار حراء إلى أن يقول:"وبعد ذلك عاودت الصعود، الأحجار ما تزال حادة بارزة كأنها أنياب أو أضراس حيوان متوحش كلفته السماء بأن يحرس صاحب الغار بعيدا حتى عن الهواء إذا حاول أن يتسلل إلى هدوئه الكريم". ويصف الغار وموقعه في مواجهة الكعبة، وكان الرسول عليه السلام يقف في هذا المكان ثم ينزل بساقيه ويتساند علي هذه الصخرة بالذات ثم يدخل الغار، وقد حنى رأسه قليلا ثم يضع طعامه من لبن الماعز وبعض الخبز، ثم يجلس ثم يسند ظهره إلى داخل الغار ويتوجه إلى السماء، فإذا جاء الليل دخل الرسول إلى عمق الغار وأسند ظهره وراح يفكر في أمر الناس ما كان منهم وما سوف يكون، ولكنه لا يدري ما الذي يدفعه إلى هذا المكان؟ وكانت رحلة الكاتب أنيس منصور مع الدنيا طويلة عريضة، وكذلك رحلته مع الفلسفة ومع الشك، فقد زار كل معابد الدنيا ووقف على حائط المبكى بالقدس، وزار الهند ورأى عبادة البقر، ورأى ومشى في الطريق الذي سار فيه المسيح عليه السلام طريق الآلام يحمل صليبه ويتهاوى تحته، ورأى المهد الذي ولد فيه المسيح، ورأى الجبل الذي ألقى فيه موعظته الأخيرة، ورأى الحديقة التي تناول فيها المسيح عشاءه الأخير، وخانه أشد الناس حباً له، وباعوه بفلوس معدودة. وفي طهران رأى معبد النور، ويقول:"دخلت ورأيت سراجا منيرا محاطا بزجاج، وقال لي الراهب هذا نور أبدي، وضحكت وقلت كيف يكون النور أبدياً وأستطيع أن أخمده بنفخة من أنفي". ورأى معبد زرادشت ورأى معبد بوذا وكنفوشيس. ويقول:"في مدينة كيوتو في اليابان دعاني أحد الأصدقاءلأرى أحدث ما اهتدت إليه العبقرية اليابانية في العبادة، فهم في اليابان يعرفون أنهم مئات الملايين اليوم وغداً، وليس في الإمكان أن يذهبوا للمعابد في وقت واحد في أي يوم من أيام الأسبوع، لذلك فإن كل واحد منهم أقام معبدا في ركن من أركان البيت،يتوجه إليه ويصلي، فما دام الله في كل مكان ففي الإمكان أن يصلوا له في أي مكان، في السيارة، في الطيارة، في ركن من أركان البيت. ويقول رأيت أحد الآلهة وجلست إليه وشربت معه وتحدثت وانتقلت منه عدوي الأنفلونزا، وهنأني وزراء الدلاي لاما علي هذا الشرف الذي لم ينله أحد من قبل". وفي كلية الآداب درس أنيس منصور الفلسفة أو الفلسفات والأديان ومقارنتها، وقرأ التوراة ويقول: "ولا أدعي أنني أخذت التوراة مأخذ الجد، ولكن أفزعتني قصصه الجنسية الفاحشة ولم أفهم لذلك معنى ولا سألت أحدا. واستهواني من الإنجيل إنجيل بولس الرسول، وربما كان بولس أقرب إلى الحواريين من الفلسفة اليونانية، وقرأته باللغة العربية ولم تعجبني لغته". ويقول:" بهرتني دراسة الفلسفة، وقفزت كلمة جديدة أصبحنا نسرف في استخدامها بلا خوف: الإلحاد، وشجعنا على استخدامها أننا كنا نتردد على بيت العقاد في مصر الجديدة، وكان هو لا يبالي بشيء، وفي أحد المرات أخذ الأستاذ العقاد يتكلم عن الله في السماء والأرض ويقول: كيف يخلقني الله في عصر يعيش فيه هؤلاء البهائم،ويشير إلى عدد من الحكام والوزراء وأساتذة الجامعة، وعندما يفرغ الأستاذ العقاد من هذه العبارة كنا نشعر أن السماء لا بد أن تنطبق على الأرض وأن بيت العقاد يجب أن ينهدم فوراً، فقد قال العقاد شيئاً رهيباً". ويقول:" إن العقاد بمثل هذه الأقوال قد ضربنا على رؤوسنا، بل إنه قد فتح رؤوسنا وأسقط منا الخوف ثم أعادها إلى مكانها، ولم يكن العقاد إلا مفكراً عظيماً ومؤمناً عظيماً ورائداً عظيماً". ومن من تأثر بهم أنيس منصور أستاذه عبد الرحمن بدوي،وهو شخصية تشبه آلهة أرسطو كما يقول عنه، وكان يدرس طلابه الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية والفلسفة الوجودية، وقرأ أنيس منصور لكثير من الفلاسفة، كما قرأ ما كتبه العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول الراحل أنيس منصور إنه حج إلى بيت الله الحرام وبكى وبلل ثيابه وشرب ماء زمزم، ولكن إحساسه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان شيئاً آخر من نوع آخر، فهنا كان يقيم الرسول، وهنا كانت زوجاته، وفي بيت عائشة وعلى صدرها توفي في ملابسه، فغسلوه وبها دفنوه، وعند كتفي الرسول دفن أبو بكر، وعند قدمي الرسول دفن عمر. ومن هنا كان يخرج من بيته، وهنا كان يصلي، وهنا كان يتحدث إلى الناس، ومن هنا خرج مريضاً، وهنا مرض ولقي ربه، ولم يكن للرسول مال ولا سيف وإنما فقط ما يقول. ---------------------- عن صحيفة "الصحافة" السودانية