بعد أن تمكنت حركة النهضة في تونس من حصد أغلبية المقاعد النيابية في المجلس التأسيسي التونسي الجديد، يكون من حقها أن تشكل حكومة حزبية كما هو الأمر في أنظمة الأكثرية البرلمانية، وإذا لم يرغب الحزب في تشكيل مثل هذه الحكومة، رغم فوزه الساحق في الانتخابات، أو إذا لم يتمكن من إحراز الأغلبية المطلقة في المجلس، فإنه سوف يكون من حقه أن يبادر إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب أخرى. في الحالتين فإن حزب النهضة بزعامة الشيخ راشد الغنوشي سوف يكون قاطرة المرحلة التونسيةالجديدة. الحكومة الحزبية سوف تسمح له بتنفيذ برنامجه كاملاً، أما الحكومة الائتلافية فإنها سوف تعطيه حرية واسعة في تطبيق برنامجه لأنها سوف تكون بين حزب يحظى بتأييد شعبي ونيابي واسع، وبين أحزاب حليفة محدودة القوة والتأثير، وفي مختلف الحالات، سوف يكون الحمل ثقيلاً على كاهل النهضويين، إنه حمل تحقيق ثلاث مهمات مجتمعة: أولاً، حركة النهضة سوف تتحمل مسؤولية إقامة أول جمهورية إسلامية- إن صح التعبير- في المنطقة العربية. هناك محاولات من هذا النوع سبقت الحدث التونسي مثل حكومة الرئيس عمر البشير في السودان التي تشكلت عام 1989 بدعم من الجبهة الإسلامية القومية التي ترأسها الشيخ حسن الترابي، وحكومة حماس في فلسطينالمحتلة. ولكن التجربة التونسيةالجديدة تختلف عن هذه التجارب من حيث إن حركة النهضة وصلت إلى الحكم نتيجة الانتخابات الشرعية، ومن حيث إنها مهيأة لكي تحكم من دون أن يكون معها في الحكم شريك، أو أن تكون مقيدة بظروف الاحتلال كما هو الأمر مع حكومة حماس. هذا يضفى على حكومة النهضة المتوقعة مشروعية ويمنحها حرية واسعة لم تتوافر لأي فصيل إسلامي دخل الحكم في الدول العربية.
ثانياً، إن النجاح الانتخابي وتشكيل حكومة ديمقراطية سوف يضعان على عاتق النهضة مسؤولية قيادة مرحلتي الانتقال إلى الديمقراطية وترسيخها معاً. وهذه مسؤولية ضخمة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العهد الجديد هو العهد الديمقراطي الأول في تونس. فبين عهدي الانتداب والاستقلال بقيادة الحزب الدستوري، لبثت البلاد تحت حكم الحزب الواحد ولم تعرف طعم التعددية السياسية. الآن تبدو الفرصة سانحة أمام الانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية، والفرصة متوافرة أمام النهضة لكي تضطلع بقيادة هذا التحول التاريخي.
ثالثاً، يضع النجاح الانتخابي الكبير على عاتق حزب النهضة القيام بدور مهم واستثنائي في دمقرطة التيار الإسلامي في المنطقة العربية، وفي بلورة معالم الإسلام الديمقراطي، إن صح التعبير. كيف يكون النظام الديمقراطي الإسلامي الجديد؟ لقد أكد الشيخ راشد الغنوشي مراراً وفي الاجتماعات المفتوحة والمغلقة أن الحركة ملتزمة التزاما أكيداً التعددية السياسية، وكثيراً ما قال في هذا الصدد، إن حزبه يختلف اختلافاً كبيراً مع الحركات والأحزاب الماركسية، ولكنه لا مانع لديه أو لدى حزبه من ممارسة العمل السياسي السلمي والديمقراطي إذا حكم البلاد الشيوعيون. فهل تكون التعددية الحزبية المفتوحة هي النموذج المختار لدى حزب النهضة؟
لقد ردد بعض نشطاء الحزب، قبل سنوات، أن الصيغة الأفضل لديهم هي التعددية في الإطار الإسلامي . ولكن الشيخ الغنوشي جعل يؤكد في ما بعد أن النهضة تلتزم مبدأ التعددية المفتوحة، حيث يكون لسائر الأحزاب دينية كانت أم غير دينية الحرية الكاملة في الانخراط بالحياة السياسية وفي التنافس على أصوات الناخبين وعلى تمثيل الشعب. هذه التأكيدات الصادرة عن الشخصية الأولى في حزب النهضة وفي التيار الإسلامي التونسي، تبدو أقرب إلى التعبير عن التفكير السائد في الحزب .
إذا تبنّت حركة النهضة مفهوم التعددية الحزبية المفتوحة، والتزمته بدقة بحيث تشعر الأحزاب التونسية المستقلة والمعارضة باحترام حريتها الكاملة في العمل في ظل حكومة النهضة، فلسوف يترتب على هذا النهج تداعيات إيجابية تتجاوز تونس، إلى سائر الدول العربية. عندئذٍ سوف تتمكن الجماعات الإسلامية من إعطاء النموذج التونسي كدليل حي على التزام التيار الإسلامي المبادئ الديمقراطية، وعلى احترامه لقيم التنافس السلمي وتداول السلطة بين الأحزاب العربية إسلامية كانت أم غير إسلامية .
لسوف تكون لهذه المقارنات أهمية مضاعفة في وقت تشتد فيه الحملات في دول الغرب، وتتردد أصداؤها في بعض الدول العربية، ضد تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا. وترمي هذه الحملات التي تفاقمت بعد اشتداد الصراع التركي - “الإسرائيلي”، إلى تشويه سمعة الحزب التركي الحاكم وتصوير رئيس الوزراء التركي أردوغان بأنه حاكم أوتوقراطي تستّر بالديمقراطية لكي يمتّن قبضته على السلطة. استطراداً يذهب بعض الناقدين إلى الحديث عن تجربة العدالة والتنمية وكأنها دليل جديد على أن الإسلام والديمقراطية لا يجتمعان .
تتسم هذه الحملات بالكثير من التحامل، ولكن استمرارها سوف يؤثر في التجربة التركية ويلبّد الأجواء الدولية المحيطة بها، ويمد فرسان الإسلاموفوبيا بمادة إضافية لتصعيد الحروب والمعارك التي يخوضونها . إن نجاح حزب النهضة في اجتياز الامتحان الديمقراطي سوف تكون له نتائج إيجابية على صعيد دمقرطة الأحزاب الإسلامية نفسها، وترسيخ الديمقراطية في تونس، وتسريع وتعميق حركة التغيير في البلدان العربية. إنها مسؤولية كبرى ولا شك، ولكن تونس التي فاجأتنا بمعجزة الربيع العربي قد تفاجئنا بإنجاز ديمقراطي جديد تجني المنطقة العربية ثماره. .-------------- عن صحيفة " الخليج "الاماراتية