كانت من أشد المتحمسين لأفكاري، ما عرضت عليها فكرة قط إلا واحتضنتها برفق وهدوء بعد عنف جدال ومر صراع، وسرعان ما لبثت أن نشرت تلك الأفكار بين صديقاتها، حتى أضحيت فتى الأحلام بالنسبة لهن جميعًا، ورغم أنهن يعلمن جيدًا أنني لست لإحداهن؛ لأنني على وشك الارتباط بأخرى خارج تلك الشلة إلا أن ذلك لم يحل بين تعدد ألوان الغزل بيني وبينهن وسعيهن الدائب وتنافسهن القاتل من أجل الظفر بي، أو على الأقل استشارتي في "فتى الحقيقة" الذي يتقدم لإحداهن بين الفينة والأخرى، وقد رسمن مني "نموذجًا" للقياس والاستدلال عليه في حسن الاختيار بين أفضل النماذج المعروضة، ولم تكن النماذج المعروضة ترضي أطماعهن وشهواتهن، وتسدل الستار عن تلك العيون الحائرة المجنونة، فليس هناك كمال في تلك النماذج جميعها، بل ولا كمال في نموذج فتى أحلامهن إلا أنهن ناقصات عقل ودين، كما أنَّ الحب مرآته ظاهرها كباطنها أو أشد ظلمة. هي سمراء عربية لا زنجية ولا غربية، برونزية الجسد، مكتنزة الشفاه، غريزية الصدر والعيون، مليحة القوام، متناسقة في انسياب جسدها وتعرجاته ومنحدراته، وتموجات شعرها الداكن، يضفي عليها حسن اختيارها لثيابها وتناسق قطعه ولمسات جسدها البارزة والمجسمة فوق هذا الستار الشفاف من الثياب حسنًا آخر يزيدها جمالاً للقاصي دون الداني، وخلف هذا الجسد الفاني قلب حزين كظيم، كله مشاعر نابضة بالدفء في الشتاء والحنان في الصيف، والهدوء نهارًا والرعشة ليلاً، وروح تقوى تدفقات هذا القلب الأبيض وتدعم خفقاته وتزيدها كفرًا بالهدوء والسكينة وإيمانًا بالتمرد والعصيان والسخرية، وكل ما ترجوه من معرفتي، كما كانت تقول، أن نتعلم سويًا، وإن كان هذا التعليم سوف يمتد إلى معارف غير مألوفة وممارسة قصص الحب العفيف والعنيف في الواقع، حتى ولو كانت الممارسة والعشق من طرف دون الآخر. أما أنا ذلك الشاب الفارع الطويل، يقظ العينين، مفرط الحساسية، متأجج العواطف، ملتهب الثغر، عزيز النفس، لم أحمل في نفسي من وراء تلك المدرسة إلا رغبة في معرفة طباع النساء والغوص في أعماق هذا العالم الثرثار وحرصًا شديدًا على الإجابة عن عدة علامات استفهام، تبدأ من السؤال عن لغة العيون، وتتكاثر فيما بينها وتتوالد في تساؤلات أشد تعقيدًا وإحراجًا، كما كنت في مدرسة الفتيات هذه أشعر براحة من يستطيع أن يسد الفراغ الكثيف في حياة عمودها الفقري حب ميئوس من الوصول إليه كيأسي في العلاج منه، والموت دونه أقرب من حياة معه. وحينما سافرت إلى المدينة، كانت الرسائل بيني وبينها في تواتر مستمر، فأعلم أن الآنسة "أ" قد تمت خطبتها إلى أحد الأصدقاء، وأن الآنسة "ب"قد تم عقد قرانها من الأخ فلان بعد قصة حب قصيرة كنا نتتبعها سويًا في صمت، وأن الفاضلة "ج" قد أجبرت على الزواج من قريب لها لم تره في حياتها إلا بضع مرات، ولم تحدثه إلا لغة مألوفة سخيفة من كيف حالك ؟ وما هي آخر الأخبار ؟ وما هي أخبار الأقارب والأصدقاء ؟، وكانت صديقتي تلك تعلق على تلك القصص بأسلوب "الفكرة والجوهر" بعيدًا عن دنس المادة والشكليات والتكاليف المصطنعة، فقد كانت تعشق اللغة الحية والأسلوب التلقائي في كل التعاملات، وكانت تضع الحب كما تعلمنا أرقى لغة وأفضل أسلوب؛ فهو جهاد أولاً وأخيرًا، وأكثر التعاملات حاجة إلى اللغة الحيوية والأسلوب الدافئ الحنون لا اللغة الباردة الساكنة والأسلوب الثابت الراكد. وبين فترة وأخرى كنا نلتقي صدفة، وكانت تعتبر لقاء الصدفة أجمل بكثير من ترتيب موعد والإعداد له، لأن لقاءات الصدفة أكثر حياة وبلا رتوش بالمقارنة بترتيب المواعيد، وكانت قد التحقت بعمل كله فن وذوق، يعتمد على الإبداع والابتكار، عمل تربوي، وكانت تعشق هذا العمل كعشقها لي، وفي مكان هذا العمل متسع لأن نلتقي أفرادًا وجماعات بحرية كحرية هذا العمل وكثيرًا ما كانت تنتهي اللقاءات بأن يعيش كل منا للآخر دون قلق باقي الشلة ومزاحمتها أو ننصرف لنلتقي أنا وهي في مكان أجمل، وكثيرًا ما كانت تضيق ذرعًا حينما تعلم أنني مررت أمام مكان عملها دون زيارتها، وكذلك الأمر بالنسبة لبيتها، وكنت على معرفة شخصية قوية بأمها وأبيها وأخيها وأختيها، وترددت على بيتهم أكثر من مرة. بعد فترة من استلامها لعملها، جلست إلى جوارها في حديث طويل، تزحلق الحوار عن مجراه، قالت وهي تنظر نحوي برقة معهودة: * لقد تزوجت الأخت الكبرى، كما تعلم، والأخت الوسطى تم عقد قرانها. * حقًا ؟ * أجل، يا صديقي، لقد دخل الزواج بيتنا ابتسمت، وبهدوء ألفيتني أقول: * ليته لا يخرج إلا بك دهشت من مقولتي تلك، وحاولت أن تخفي بعض الضيق، إلا أن صدرها وعينيها كشفا عن سريرتها، وقالت بحذر: * ألهذه الدرجة تريد أن تتخلص مني ؟ هل وصلنا إلى الملل، ذلك المرض الذي يعادل الطاعون في القرن المنصرم ؟ قلت، وقد خجلت من نفسي، وخاصة وأنني من ارتفاع صدرها ورعشاته أدركت أنني أحرجتها كثيرًا: * ما هذا قصدت، يا صغيرتي، ولكني أداعبك، رغم أن ذلك غدًا سيكون حقيقة. * لا تخف، فأنا وحدي التي أملك أن أحوله إلى حقيقة، وإن كنت لا أستطيع أن أحوله إلى حقيقة إلا بأمرك * لا تعظمي من شأني، فأنا قد لا أستشيرك إذا فكرت في الزواج. * لا يهمني استشارتك لي، ولكنني لا غنى لي عن استشارتك. أدركت أن الحديث سيطول، وأنني مطوق بسلاسل بخصوص أمر لا حول لي ولا قوة به في تلك الظروف، فقلت لها لأنهي الحديث: * دعينا من ذلك الآن، فأمامنا رحلة طويلة قبل الشروع في تلك المسألة أليس كذلك ؟ قالت بتردد بعد تفكير مكثف عاجل: * أجل .. أجل * إذن أستودعك الآن؛ لأنني ربما أسافر اليوم * في رعاية الله هممت من مكاني، وهمت خلفي، ونظرت إليها أودعها، فسلمت يدها إلىَّ، ولأول مرة أشعر باضطراب وخجل في تلاقي أيدينا، إذ أن رعشة خفيفة تسربت إلى جسدي كله، كما تسربت إلى جسدها أيضًا. وفي القاهرة، حيث أقيم، جاءتني آخر رسالة منها، كانت مفعمة بالعاطفة السافرة والتفاني من أجل الفكرة والجهاد في سبيل الحب، لم تكن الرسالة طويلة، وإنما كانت دسمة، وانتهت بمقولتها: * "أنا لا يهمني كثيرًا أن يضيع مني من أحبه بعد طول جهادي من أجله، ولكني سوف أحافظ جاهدة على هذا الحب رغم ضياع الحبيب في الزحام وأخذه مني، لأنه اختار ذلك، وأختار صديقتي الآنسة "و" ليبدأ معها الرحلة الأخرى، ولابد لي أن أحترم هذا الاختيار وأحبه أيضًا، إذ أنني سوف أعيش لهذا الحب وأموت معه ... " قرأت الرسالة أكثر من مرة، ثم تركتها، ثم قرأتها مرة أخرى بعد فترة، واستغرقت في تفكير عميق، أقارن بين الرحلة القادمة مع الآنسة "و" رحلة الحب والزواج ورحلتي التي تحتضر مع الصديقة الرقيقة، واشتد بي الألم والحسرة على صديقتي الآنسة "ي"، واحترت مع نفسي، وتساءلت: * هل يمكن أن أعيش واستمتع بالرحلتين جنبًا إلى جنب: رحلة الحب والزواج مع حبيبتي "و" ورحلة الصداقة والخلود مع صديقتي الآنسة "ي" ؟ وبدون وعي مني، ورغم أنفي، وجدتني أمسك عود ثقاب مشعلاً إياه، وأطوي الخطاب بعنف، وأجعله يحترق في هدوء أمام ناظري؛ لأجد في ذلك مخرجًا، ولكن بلا فائدة، فقد ازداد الأمر اضطرابًا واحتراقًا، ولم تهدأ ثورتي إلا حينما عدت إلى القرية، ومررت في طريقي بالآنسة "ي"، وهي واقفة عملاقة بين بعض صويحباتها، وظننت أنها ستجري نحوي كالعادة، وتنشر شعاعي بين الأصدقاء الجدد، إلا أن ذلك لم يحدث، واقتربت أكثر وأكثر، وأنا أتساءل: ماذا حدث ؟ ألقيت عليها السلام، فما تحركت نحوي، وإنما بأسلوب دبلوماسي محنك ردت السلام، واستمرت تتحدث مع صديقاتها دون أن تلقي عليَّ نظرة واحدة، أو تبتسم لي بثغرها الوارف، وازدادت حيرتي ودهشتي أكثر، وحاولت أن أعرف سر ذلك التحول الثوري في حياتها، وانتهى بي السير إلى قريبة لي، فما أن جلست إلى جوارها حتى قالت لي، وكأنها تعلن عن ثورة في عالم الموضة: * ألم تدر أن الشقيقة الكبرى للآنسة "ي" صديقتك سافرت إلى إحدى دول البترول الغنية، وقد أرسلت دعوة لأختها الصغيرة لكي تلحق بها هناك، وأن الآنسة "ي" قد أعدت نفسها واستعدت للسفر الذي سيكون قريبًا. هنا أدركت جيدًا معاني السلام الدبلوماسي الذي ألقته عليّ الآنسة "ي" مع أصدقائها، إذ أنها الآن قد قاربت الثلاثين من عمرها، ووصلت إلى آخر حروف الهجاء في سرد الفكرة، ولم تسعفها الحروف من الألف إلى الياء في معالجة الموقف، فما كان عليها إلا أن تجرب الغناء والجهاد في سبيل الفكرة في السوق السوداء وبالعملة الصعبة !!