يبدو أنك تستطيع أن " تستحم" في نهر الثورة مرتين، وأنه " ما أشبه الليلة بالبارحة" حقا كما قال العربي الحكيم، فكتاب " مذكرات عربجي" المُعاد طباعته مؤخرا في سلسلة " ذاكرة الوطن" الصادرة عن هيئة قصور الثقافة - هذا الكتاب- لمؤلفه " الأسطى حنفي أبو محمود" يؤكد أنه لا فارق كبيرا بين ما حدث عقب ثورة 1919، وما يحدث حاليا بعد ثورة 25 يناير 2011. يفتتح فكري أباظة المذكرات ناصحا الأسطى حنفي الذي ضربت أزمة ما بعد الثورة مهنته كعربجي حنطور محترف وأديب هاو، بقوله: " لا تفكر كثيرا يا حنفي في الأزمة ولا تطمع. ومادام علفك وعلف أولادك ومواشيك موجودا، فاحمد الله، ومادمت فيلسوفا فليكن جيبك " فاضيا" مثل قلبك، ألا تعلم أن من تصدى لتهذيب الجمهور، وجب أن " يدوسه" الجمهور"؟ والأسطى حنفي، لمن لا يعرفه، عربجي مثقف أدركته حُرفة الأدب ( أي شقائه)، لا ينسى أن يشتري مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، ومذكراته هي شبه يوميات لرجل ينقل الناس من مكان إلى آخر، من أقصى قاهرة العشرينات إلى أدناها. وهو يتسمع لما يقولونه من أحاديث، راصدا بسخرية لاسعة مثل كرباجه خبايا ومفارقات مجتمع ما بعد الثورة، وكيف أن هؤلاء البهوات " المقلفطين" الذين يركبون حنطوره، ركبوا الثورة أيضا ودلدلوا رجليهم، مدلدلين - فوق ذلك- لسانهم للثوار. ومن هؤلاء سياسي يذكره المؤلف بالاسم، هو أحمد بك الشيخ عضو مجلس الشيوخ عن مديرية الغربية آنذاك، الذي بدأ مشواره مع السياسة " بلا رئيس إلاّ سعد"، ثم تحوّل إلى " عدلي فوق الجميع"، ثم ظهر بعد ذلك أنه " لا حياة إلاّ لثروت"، وهناك وقف لأن " التالتة تابتة". ركب " البك" مع الأسطى من أمام جريدة " الأهرام" - تاني؟- حيث بدأ " يسخ" الجمهور مقالاته بعد الثورة، وقال للعربجي : " سوق على بيت سعد باشا يا أسطى إلاّ مافيش وقت". ويحكي المؤلف " ولهلبت ظهور الخيل بالكرباج، وفي أقل من لمح البصر كنت أمام بيت الأمة، ونزل البك دون أن يدفع الأجرة. وانتظرت، مرت ساعة دون أن يخرج وضاعت مني زبائن كثيرة ( ...) وأخيرا طلبت بواسطة أحد الخدم أجرتي لأنصرف، فأخبرني الخادم أن أحمد بك لا أثر له في الداخل، كيف خرج، بل كيف زاغ؟ هذا ما لا أدريه بالرغم من أني لم أنم. وفي نهاية المطاف جاء فرّاش معالي الرئيس بالأجرة أكثر مما أستحق، وهكذا كان بيت الأمة يدفع من مال الأمة " لجدعان" القضية، حتى أجرة عرباتهم. وتصادف بعد ذلك، يضيف المؤلف، أني أركبته معي مرارا، أذكر من أطيبها موقفا أيام كان الخلاف بين معالي " سعد باشا" معالي " عدلي باشا" على أشده، وأحمد بك الشيخ معروف حتى في دوائرنا أنه " سعدي" صميم. ناداني في ميدان الأوبرا، وكان ساهما مفكرا، وقال لي: سوق على بيت سعد باشا، لا يا أسطى بيت عدلي باشا، أيوه أنا قلت لك بيت سعد باشا؟ فظننت، ولست ولياً من أولياء الله، أنه يريد بيت الأمة، ولم أكن أعلم أنه يستفهم مني بسؤاله الأخير. فما إن وقفت أمام بيت سعد باشا إلاّ وأحمد بك يرفع الكبوت وهو يقول بصوت واطي لكن بحدة: يا ابن ال ... أنا قلت لك بيت عدلي باشا مش بيت سعد باشا، سوق بلاش فضيحة الله يفضحك يا غبي. فسرت وأنا أضحك في سري لأن وجود هذه الشخصيات على مسرح السياسة في كل أمة لازم لتفريج الهم عند الضيق (...)، وكان هذا هو آخر عهدي به، فلم أره بعد ذلك إلاّ في أوتومبيلات " رينو"، وكان يمر عليّ وأنا في موقفي كما يمر الغزال الفريد". ويسجل كاتبنا ملاحظة تدلك على أن الشرطة والشعب كانا - كما زالا- على طرفي نقيض: " وفي الشارع لا يتأتى أن تحس بالاحترام من نفر البوليس إلاّ إذا كنت ممن ينطبق عليهم الدور الغنائي القائل " يا أبو الشريط الأحمر يا للي". تصوّر جنيها انجليزيا وكورونا نمساويا أمام عيني صرّاف لترى مظاهر الاحترام للأول وآيات الاحتقار للثاني، كذلك نفر بوليسنا تراه لا يتجمل ولا يظهر بغير حقيقته إلاّ أمام النجوم اللامعة"... إنها - فيما يبدو- نبوءة أخرى من العيار الثقيل، حول العلاقة الحالية بين الشرطة والشعب من جهة، والشرطة والجيش من جهة أخرى. ويتنبأ الأسطى حنفي بظاهرة " ما بعد ثورية" جديدة هي تحوّل الرفقاء إلى فرقاء: " طالما سمعت من المعجب يوم كانت الأمة كتلة واحدة أُعجب العالم باتحادها ( لاحظ)، ثم يوم ابتدأنا نسمع اللهجة الجديدة، أوائل بشائر الخيبة، هذا " سعدي" و ذاك " عدلي" وحضرته " ثروتي"، وتدفقت الأمواج السياسية من هذه الفتحات فأصابت من مقاتلنا ما أصابت، ونلنا من أنفسنا أكثر مما نال من الأعداء"، أعداء الثورة. أخيرا فإن " مذكرات عربجي" التي أغلب الظن أن كاتبها هو فكري أباظة نفسه، ليست مجرد كتاب فكاهي، إنها - بلغة المثقفين- " باروديا" سياسية تعكس، في مرآة ثورة 19، محاكاة ساخرة لما يحدث في مصر الآن بعد ثورة 25 يناير من لغو ولغط، غير سياسي بالمرة.