لا يكشف كتاب »مذكرات عربجي« الصادر أخيراً عن هيئة قصور الثقافة عن خفة دم كاتبه وسخريته اللاذعة وطول لسانه في الحق طبعاً فقط، بل يكشف أيضاً، وهو الأهم، عن وشائج وصلات عديدة بينه وبين زماننا وأيامنا، علي الرغم من أن هناك ما يقرب من 09 عاماً تفصل بيننا وبينه. صدرت »مذكرات عربجي« عام 2291، أي بعد اندلاع ثورة 9191 بثلاث سنوات، مسلسلة أولاً في مجلة الكشكول، وكان يوقعها حنفي أبو محمود العربجي صاحب إحدي عربات الحنطور، ويؤكد الكثيرون أن كاتبها هو الفنان الراحل سليمان نجيب. والحقيقة أن الممثل الراحل العظيم استطاع أن يتقمص بإتقان شديد شخصية العربجي ولغته ومهنته، وساعده في ذلك خفة دمه التي تظهر واضحة في الأفلام القديمة. وبدلاً من التمثيل أمام الكاميرا، أمسك سليمان نجيب بقلمه وكتب 61 مذكرة، هي بمثابة سجل دقيق ودفتر أحوال لقاع المدينة ونخبتها بعد ثلاث سنوات من ثورة 9191. وإذا كان هناك من علّق علي المذكرات من قبل مشيراً إلي مواقف المتلونين والانتهازيين المتشابهة في الثورتين: 9191، 1102 إلا أنهم فيما يبدو لا يلتفتون إلي أن استمرار هؤلاء المتلونين ثلاث سنوات بعد الثورة، إلي الحد الذي يشكل ظاهرة يتناولها العربجي في مذكراته، معناه أن الثورة فشلت في كشف وتعرية هذه النماذج التي تشبه القراد والملازمة دائماً للثورات. وبالطبع نتمني جميعاً القراء وأنا أن تكون الثورة المصرية قد أجهزت تماماً علي هؤلاء المتلونين قبل مرور ثلاث سنوات، علي الرغم من قدرتهم الفائقة علي الرقص والشخلعة في كل العهود، معتمدين علي الزمن الذي هو أكبر دوا.! يكتب العربجي مثلاً: »في هذه الأيام جمعتني الصدف بالأستاذ المقلفط تشريفاتي استقبالات معالي الرئيس وسكرتير لجنة استقبال دولة الرئيس وخطيب وفود دولة الرئيس« وسرعان ما نتبين أنه أحمد بك الشيخ الذي وصل إلي رتبته في مجلس المديرية، ولعب علي كل الحبال، وتملق الجميع. يخرج من الصحيفة بعد أن يرفع الجمهور مقالاً نارياً، ويركب مع الأسطي أبو حنفي ليوصله إلي بيت الأمة، وهناك لا يتورع عن التزويغ من الأسطي ويخرج من باب آخر! يمسح العربجي المدينة من أقصاها إلي أقصاها، يركب معه المتنطعون والقوادون والعشاق، يسخر من مخبري وضباط زمانه المرتشين، يعري الجميع ويكشف سوءاتهم وانقسامهم وتشرذمهم، يهتم برجال السياسة والصحافة علي نحو خاص، ليقدم في النهاية صورة »فنية« باهرة، ويستخدم اللغة العامية في مكانها تماماً، وتمنح سطوره مجتمع القاهرة عام 2291 حيوية فائقة. من جانب آخر، إذا كان هذا هو حال الدنيا بعد ثلاث سنوات من اندلاع واحدة من الثورات الكبري في تاريخ الإنسانية، فهل يحدث مع ثورتنا في 52 يناير، وبعد ثلاث سنوات، ما جري لثورة 9191؟! ستكون كارثة بالطبع لو حدث هذا، وأغلب الظن أن الأمور في طريقها للانفراج علي الرغم من المخاوف العديدة الماثلة أمام الجميع. فلنتأمل مثلاً الحِكم المأثورة التي يسوقها لنا الأسطي حنفي أبو محمود تعليقاً علي حال الدنيا بعد ثلاث سنوات من الثورة: »سعد باشا سيدنا ورئيسنا وعدلي باشا تاج رئيسنا ولكن كل ما نطلبه أن تنتهي الحالة التي نحن فيها الآن. الحالة التي لا ترضي أحداً وزهق منها الجميع«. أو »هذا سعدي وذلك عدلي وحضرته ثروتي وتدفقت الأمواج السياسية من هذه الفتحات فأصابت من مقاتلنا ما أصابت ونلنا من أنفسنا أكثر مما نال الأعداء منا«. الأكثر إثارة للدهشة هو ما يحدث للأسطي حنفي عندما تصطدم عربته بعربة أخري في الشارع وينفد من الموت بأعجوبة علي حد قوله، وينتقل إلي قصر العيني منذ تسعين عاماً فلا يجدون له سريراً ويبسطون له بطانية علي الأرض ويطلقون عليه اسم »مريض نمرة 5.5« لأنه كان بين السريرين 5، 6. وبغض النظر عن أن قصر العيني مازال يشهد الآن ما سبق أن شاهده قبل أكثر من تسعين عاماً، إلا أنني أظن أن المصريين سيسمحون لأن تتعرض ثورتهم لما تعرضت له ثورة 9191 من غدر وخسة البعض، وننتظر عام 4102 »عربجي« آخر يتجول في شوارع القاهرة، ويصف لنا مدينة أكثر جمالاً ونبلاً، مدينة تشبه ميدان التحرير يوم جمعة الغضب!