ضمن سلسلة «ذاكرة الوطن» التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة صدر كتاب «مذكرات عربجي» لمؤلفه الأسطي حنفي «أبو محمود» وهو يرصد بسخرية لاذعة مواقف المتلونين والانتهازيين الذين ظهروا أعقاب ثورة 1919 ليقضو عليها بإدعائهم الثورية وركوبهم لموجة الثورة. فيعريهم ويجلدهم بكرباج السخرية وهو بهذا يرصد علي طريقته جانبا مهما من مجتمعات ما بعد الثورة ولحظات التحول الكبري في تاريخ هذه المجتمعات، وذلك من خلال «حوذي» ورث المهنة عن أبيه وراح بخفة ظل وأسلوب رشيق يسجل ذكرياته وأحاديثه مع الركاب عن السياسة والحياة الاجتماعية في ست عشرة مذكرة وخاتمة يجمع بينها خيط رفيع ينتمي إلي روح مصر وذاكرتها في ذلك العصر، الكتاب يقع في 82 صفحة من القطع الصغير، وكانت طبعته الأولي قد صدرت عام 1922، وهو كتاب يتميز بالجدل منذ صدوره لأول مرة وحتي الآن حول مؤلفه الحقيقي، باعتبار ان الأسطي حنفي مجرد اسم مستعار للكاتب الكبير فكري أباظة حيث جاءت مقدمة الكتاب باسمه صراحة وفي هذا الصدد ترجع «نفوسة ذكريا» في كتابها «تاريخ الدعوة إلي العامية وآثارها في مصر، ان المذكرات لا يمكن أن يكون كاتبها «حوذي» كما ان الأسلوب الفصيح المبطن بالعامية هو نفسه أسلوب فكري أباظة في مقالاته الصحفية. وان كان الشاعر والكاتب الراحل «صالح جودت» يؤكد في كتابه «ملوك وصعاليك» و الذي نشر عام 1958: ان مؤلف كتاب مذكرات عربجي هو الممثل «سليمان نجيب» والذي كان قد نشره علي حلقات مسلسلة في مجلة «كشكول» أوائل العشرينات وهذا ما أكده أيضاً الكاتب الساخر محمود السعدني: إن سليمان نجيب كان أديبا مرموقاً ومثقفاً كبيرا ومن عائلة أدبية مهمة وعريقة فكان والده قاضيا وشاعرا وزجالا وكان ابن عمته الشاعر الكبير «أحمد ذكي أبو شادي» وفي سياق تأكيد السعدني علي مدي براعة سليمان نجيب الأدبية قال: إنه كان أيضا مؤلف مذكرات عربجي التي تعد من أهم ما كتب في الأدب السياسي الساخر، كما ذكر الكاتب المؤرخ الموسيقي «كمال النجمي» في إحدي مقالاته إن سليمان نجيب كان متذوقاً للموسيقي العالمية عارفا بأصولها ليس فقط لأنه أدار الأوبرا ولكن لأنه أيضاً من عائلة مثقفة ثقافة رفيعة وكان أيضاً صاحب قلم ساخر وروائياً مهما ومن أهم رواياته مذكرات عربجي. علي أية حال فإن هذا العمل الأدبي الرائع الذي كتب في ظروف تاريخية استثنائية ليحذر الأمة من متغيرات مجتمع ما بعد ثورة 1919، الذي حفظ لنا صورة المجتمع المصري في تلك الأيام محذرا أبناء المحروسة من أعداء ثورتهم وعندما تقرأ الكتاب مرة أخري تكتشف في ضوء ما يحدث بعد ثورة 25 يناير 2011 ان «المؤلف المجهول» لم يتناول عصره فقط، فما كتبه يصلح لكل المجتمعات في لحظات التحول الكبري ومجتمعات ما بعد الثورة تحديداً فالرجعيون يتلونون بألوان الثورة ويثيرون الفتن ويلعبون علي الحبال ويعلو صوت الفاسدين بشعاراتها بل ان أغلب هؤلاء يحاولون ان يكونوا متشددين أكثر من الثوار أنفسهم ليسهل عليهم ركوب الموجة واختطاف الثورة. صحيح ان التاريخ لا يعيد نفسه، لكن المتغيرات المجتمعية الكبري تتشابه من حيث النوع وتتغير من حيث الكم والكيف من زمن إلي زمن ومن مجتمع إلي مجتمع، فالطبقات المتحكمة في المجتمع تقاوم العقل الثوري وتتآمر عليه ومن أجل استمرار مصالحها تلتف حول الثورة ومبادئها وتركب موجتها للمحافظة علي موقعها الطبقي هذا ما رصده المؤلف المجهول «في مذكرات عربجي» بخفة دم فاضحا القيم السلبية والقبح الذي نما علي أطراف الثورة وكأنه ينبهنا الآن من هذه الأخطاء التي ما أن نقرأها حتي نري الأخطاء التي تحيق بنا. وها نحن ننشر تحذيره الوطني الساخر في أعقاب ثورة 25 يناير ونحن علي ثقة ان أبناء مصر المحروسة سيحافظون علي ثورتهم حتي تتم عملية التغيير الثوري ويتم بناء مجتمع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. تحية للزميل «أسامة عفيفي» رئيس تحرير السلسلة ومدير تحريرها طارق هاشم علي براعة اختياراتهما لعناوين ما يصدر عن السلسلة التي أصبحت ما بين يوم وليلة عنواناً صادقاً لذاكرة الأمة وكشافا لكتب قديمة لم نكن نعلم عنها شيئا لولا جهود الدءوب طارق هاشم.